الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد ألا إله إلا الله إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما مزيدا، وبعد:
فمن المسائل التي توقفت عندها في حياتي العلمية كثيرا واستصعب علي فهمها مسألة الكلام، فقد هالني ذلك التهويل الذي أثاره الأئمة -كان الله لهم- حولها، كما هالتني تيك الأحكام القوية التي أنزلت على المخالفين في هذا الباب، والتي بلغت إلى درجة التكفير والتبديع العيني، والمسألة من حيث (هي هي) اجتهادية كجميع المسائل الاجتهادية، قد يوفق الحاكم فيها فيصيب، أو لا يوفق فلا يصيب.
وقبل الخوض في كلام الأئمة لا بد من تحرير المسألة تحريرا مجردا بعيدا عن كل مؤثر جانبي[1] ، فسيكون تحريري للمسألة على النحو التالي:
– مسألة الخلق والأمر:
* قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
نفيد من هذه الآية الكريمة أن خلق الله تعالى يباين أمره، لأن الأصل في الواو أن تدل على المغايرة بين المتعاطفين {ألا له الخلق والأمر}.
كما نفيد من الآية أن تسخير خلقه يكون بأمره سبحانه جلّ عن النظير، قال: { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ}.
* قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
نفيد من هذه الآية الكريمة أن الخلق بالأمر كان، ولما كان الأمر بالخلق لزم بالعقل ألا يكون الأمر مخلوقا، وإلا لزم التسلسل وهو محال.
فتكون صفة الخلق في الأمر عدمية، فالأمر (لا مخلوق ولا لا مخلوق) على تعبير المناطقة، لأنه محل غير قابل صفة، فانتبه.
– مسألة التفريق بين صفة الكلام وفعل التكليم والمتكلم به:
من موجبات الحكم الصحيح التفريق بين صفة الكلام (أي أنه سبحانه متكلم بالقوة)، وفعل التكليم (أي أنه سبحانه متكلم بالفعل)، وأثر فعل التكليم (أي الكلام المتكلم به).
وهذه القسمة بديهية لا يوجد ما يوجب الانصراف عنها إلى غيرها، فقد ذهبت الطوائف الشيعية خلق الصفات، وهم في ذلك متناقضون، فهم يقولون في موضع: إن الصفات هي عين الذات، ثم يقولون في موضع آخر: إن الصفات محلوقة لله رب العالمين، وقد ذهب بعض الأشاعرة إلى أن الكلام صفة زائدة على الذات وهو نفساني قديم، ينزله الله سبحانه متى شاء، وهذا تكلف وتعسف لا دليل عليه.
أقول: والقول في صفة الكلام ليس كالقول في فعل التكليم، ولا كالقول في الأثر.
فالصفة أزليةٌ أبديةٌ، لأن الله سبحانه لا يكتسب كمالا لم يكن له، ولن يفقد كمالا هو له، فمن قال: بحدوثها، وعلم أن ذلك يوجب على الله النقصان كفر قولا واحدا لأنه طعن في لوازم وجوب وجوده سبحانه.
والفعل يفعله الله متى شاء بما شاء كيفما شاء، فهو محدث ينشأ بعد أن لم يكن، ومن قال بقدمه قال بحوادث لا أول لها لا على طريقة العلامة ابن تيمية رحمه الله والتي قيدها بخلق الزمن، بل بحوادث لا أول لها أزلا ولا آخر لها أبدا.
وأثر التكليم من الأمر الكوني أو الخطاب الشرعي محدث لا يشك في ذلك عاقل، إلا من أراد أن يجعل الكلام هو الله سبحانه -تعالى عما يقول الظالمون- .
– الجمع بين المسألتين :
* صفة الكلام ليست مخلوقة ولا محدثة، ومن قال بخلقها أو حدوثها وهو يعلم أن هذا القول يخرم وجوب وجوده، لأنه يلزم أن يتصف ربنا بكمال لم يكن له (الافتقار)، فهو كافر.
* فعل الكلام (التكليم) محدث وليس مخلوقا، ومن قال بخلقه يصوب قوله لأن صفة الخلق في الأمر عدمية، ولا حكم عليه بالكفر.
ومن قال بعدم حدوثه أو خلقه فقد قال بقدمه لزوما لأن المحل القابل للصفة إما أن يقبلها أو يقبل ما هو ضدها.
ويلزم من كلامه أن الله متكلم أزلا أبدا، وهذا تعسف في القول والعياذ بالله.
* أثر التكليم محدث وليس مخلوقا، ومن قال مخلوق يصوب قوله لأن صفة الخلق في الأمر عدمية، ولا يحكم عليه بكفر.
وأما من قال بعدم حدوثه أو خلقه فقد لزمه القول بالقدم، لأن المحل القابل للصفة إما أن يقبلها أو يقبل ما هو ضدها.
ومن قال له القدم وجعله مباينا لله تعالى فقد أوجب له صفات واجب الوجود باللزوم، لأن القديم لابد له ان يستغني بنفسه عن غيره، وبذلك يكون قد دعا الربوبية لغير الله تعالى والعياذ بالله.
ومن قال هو قديم وهو غير مباين لله تعالى ، فقد قال بقول عظيم وشنيع جدا، لأنه قال بالحلول والعياذ بالله.
وسيأتي في الفصل الثاني بيان موضع الزلل عند بعض الأئمة الذين كفروا من قال بخلق القرآن مطلقا من غير تفصيل.
[1]منهج أهل السنة الاستدلال ثم الاعتقاد، ومنهج أهل البدع الاعتقاد ثم الاستدلال.