التحذير من التقليد والدعوى إلى الاجتهاد بين التنظير العلمي والواقع العملي

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد ألا إله إلا الله إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا، أما بعد :

حتى ابتعد عن الانشاء الذي قد ينفر القارئ الكريم ولا ينفع البحث أقدم لهذا الموضوع ببعض المقدمات اللازمة لحسن النظر وأستعيض بها عن شرح الدافع وواقع الحال المؤسف عند المتأخرين، وألخص هذه المقدمات في :

1-      تعريف التقليد لغة : قال الجوهري في الصحاح : القلادَةُ : التي في العنق. وقَلَّدْتُ المرأة فَتَقَلَّدَتْ هي. ومنه التَقليد في الدينِ، وتَقليدُ الوُلاةِ الأعمالَ.

قال محمد أبومسلم : باب التقليد في اللغة من المطاوعة (كما هو متعارف عليه في علم الصرف ) أي قلّد العالمُ العلمَ لطالبِه فتقلّده الطالبُ.

2-      والتقليد في عرف المتشرعة : قال ابن النجار في الكوكب المنير : هو أخذ مذهب الغير من غير معرفة دليله، وقال الآمدي وابن حاجب : العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة.

قال محمد أبومسلم : لم يدخل التقليد فيما علم من الدين ضرورة لتعلق التقليد بمذهب المجتهد، ولم يدخل الأخذ عن المشرع سبحانه، أو المبين عليه الصلاة والسلام، أو ما كان محل إجماع في مسمى التقليد لأن حجتهم ملزمة، وهذه الثانية مبينة حدّ الآمدي وابن حاجب رحمهما الله تعالى.

3-      تعريف الاجتهاد لغة : قال ابن منظور في اللسان : والاجتهاد والتجاهد : بذل الوسع والمجهود.

4-      والاجتهاد  في عرف المتشرعة : قال ولد بونة الشنقيطي في درر الاصول :

بذل الفقيه الوسع كي يحصلا * ظنا بحكم الاجتهاد فاعقــــــلا

5-      وشرط الاجتهاد في عرف الأصوليين : قال ولد بونة في درر الأصول :

وشرطه التكليف لا الحريـــة * وأن يكــــــــــــون فقهه سجية

وعالمـا بالحد والبرهــــــــان * والنحو والتصريف والبيــــان

وبمحل الخلف والاجمــــــاع * وبرجـــال النقل والسمـــــــاع

ويكتفى فيه بنقل القدمـــــــــا * من أهل ذاك الشأن عند العلما

وآي الاحكام والاخبـــار فقط * والحفظ ليس عندهم بمشترط

والعلم بالناسخ والمنســــــوخ * مشترط عند ذوي الرســـوخ

كذا بأسباب النزول الســـامي * والخلف في شرطية الكـــلام

وعده قوم من الأعـــــــــــلام * لكن أباه حجة الإســــــــــلام

قال راقم هذه الأحرف : بأدنى نظر في هذه المقدمات يتضح لنا أن المتفق عليه عند عامة أئمة الإسلام المتأخرين ولا نكاد نعرف فيه خلافا إلا من ثلة شدت عنهم وجود عالم بلغ درجة الاجتهاد على خلاف في تحديد شروطه بين متوسع فيها ومتساهل ينظر في الكتاب والسنة بأصول غيره إن كان مجتهدا مقيدا أو وافق في أصوله غيره إن كان مجتهدا مطلقا، ووجود عامي لا يستطيع النظر بحال وإيراد دليل المسألة له وعدمه فيه سواء فيأخذ الحكم بلا دليله بالأس، ويستشكل الجمع بين الحدين فيمن لا يتفرد باستنباط حكم ولكنه يفهمه إذا عرضت عليه آلية الاستنباط وطريق الاستدلال.

قد ذهب بعض المتأخرين إلى إثبات هذه الدرجة كقسيم للتقليد والاجتهاد، ولم يجعلوها قسما من التقليد، واصطلحوا عليها الاتباع، وألزموا من وصف بهذه المرتبة بوجوب النظر في آلية الاستدلال وأخذ الحكم بدليله، ولو لم يحكموا عليه بوجوب النظر لكان الخلاف لفظيا صوريا، ولكن لما ترتب على تقسيمهم حكم كان لزاما علينا النظر في هذا التقسيم نظرة شرعية، ولبيان هذه المسألة نقدم مقدمات نلخص في :

1-      لما كانت القسمة النقلية والعقلية باعتبار القدرة على الاستنباط ثنائية لا أكثر، أما النقلية فلقول الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وقول الله تعالى : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }، فعامة المسلمين إما أهل ذكر يُسأَلون، أو لا، فيَسألون، أو هم من الذين يستنبطون الأحكام، أو من الذين يردون الأحكام إلى أولي الأمر الذين يستنبطون الأحكام، حسب الآيتين الكريمتين.

أما الدلالة العقلية على ذلك فهي بديهية لا يكاد يخالف فيها أحد سوى ما ابتلانا الله به من المعتزلة الأوائل ومتأخري أدعياء السلفية الذين يحذرون من التقليد تحذيرا مطلقا، وقد علم شرعا وعرفا أن الله فضل بعضنا على بعض في الرزق، وكان حسن التدبر والنظر من الأشياء التي فضل الله بها بعضنا على بعض، فليس من رزق النظر الحسن كمن لم يرزق، قال الله تعالى : {  أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }، وقال : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ }، أقول : لما أردف ربنا استفهامه الإنكاري في المماثلة بين الأعمى والبصير بقوله أفلا تتفكرون علم أن القصد بالأعمى الذي يرى الحقائق ولا يتفكر فيها والبصير الذي يرى الحقائق ويتدبرها.

كان المسلمون قسمين اثنين , إما أهل ذكر لهم القدرة على استنباط الأحكام لهم المرجعية في الحكم والفتوى، أو لا، ليس لهم إلا الاستفتاء عما جهلوا، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( ألآ فليسألوا إن جهلوا فإن شفاء العيّ السؤال ).

فالمكلف واقعا بحسب جنس الاجتهاد إما مجتهد يستنبط الحكم، أو مقلد لا يستطيع أن يستنبط الحكم، وبحسب آحاد المسائل إما أن يجتهد المكلف وله القدرة على استنباط حكمها عيانا، أو لا، فليس له في ذلك إلا التقليد من فتح الله عليه فيها، ولازم هذا الكلام واقعا أن الاجتهاد يتجزأ، فقد يكون العالم مجتهدا في مسألة مقلدا في مسألة أخرى، ولا يكون المقلد مجتهدا مطلقا لعدم الأهلية، وسيأتي بيان ذلك لاحقا.

وهنا نتوجه بسؤال لمحاربين التقليد : إن اجتهد من رزقه الله ذكاء، وأفرغ وسعه في تحصيل علوم الآلة التي تخول له النظر، وتوافرت فيه شروط الطلب التي عدها الشافعي رضي الله عنه في :

أخي لن تنــــــال العلم إلا بستة * سأنبيك عن تأويلها ببيـان

ذكاء وحرص واجتهاد وغربـة * ورفقة استاذ وطول زمان

فتكاملت فيه شروط الاجتهاد التي قدمنا بها في المقدمة الخامسة وكان بإمكانه استنباط الأحكام الشرعية أو تحقيق مناط الحكم على المسائل العينية المشخصة في الفتوى أو الترجيح في مسألة خلافية عند الأعلام المتقدمين أو بلغ درجة الاجتهاد المقيد، أو وافق الأئمة الكبار في آلة الاستنباط وكان مجتهدا مطلقا.

فكيف يجتهد من لم يرزق ذكاء ؟، أو رزق ذكاء ولم يتفرغ لطلب العلم ؟، أو طلب العلم ولم يوفق لكل شروطه فلم يؤهل للنظر ؟.

هل يجتهد بما لم يؤته، أو ينتظر الفتح والكشف على طريقة العباد، أو ماذا…. ؟؟؟.

و لأحسن الظن بمن يخوض في هذه المسائل وهو غير متدبر للازم كلامه أخرج كلامه على النحو التالي :

1-      لم يفرق المسكين بين شرف طلب العلم الشرعي وشرف من بلغ درجة الاجتهاد من جهة، ومن الدعوى إلى نبذ التقليد من جهة أخرى.

فلو دعا المسكين وهو يحذر من التقليد إلى طلب العلم الشرعي والحث عليه طلبا للعلى لكان أفضل له تأسيا بابن الجوزي في كتابه لفتة الكبد عندما قال لابنه : من استطاع منكم أن يكون ملكا ورضي بالنبوة فهذا من دنو الهمة والراضي بالدون دنيء، وكانت دعواه مقبولة بل لشددنا على يده في ذلك ، فنرى في هذه الأمة أمثال سبويه الذي عيّر بلحنه فقال : لأتعلمنّ علما لا ألحن به أبدا فأصبح علما في النحو لا يقدم عليه أحد، وخالد الأزهري الوقاد الذي كان وقادا في الأزهر وطلب العلم بعد أن بلغ ستة وثلاثين سنة بعد أن عيّره بعض الطلبة بعد أن أهرق الوقود على بعض أوراقهم فأصبح علما في النحو، ويكثر الذكور في الأمة كما قال الإمام أحمد : إن هذا العلم ذكر ولا يناله إلا الذكران من الرجال.

2-      لم يفهم المسكين الفرق بين الاشتغال بالمذاهب الأربعة من جهة ودعوى إحياء الكتاب والسنة من جهة أخرى، فجعل الاشتغال بالمذاهب محاربة لإحياء الكتاب والسنة، وهذا من السقم المستفحل الذي بثه بعض أدعياء العلم من المتأخرين الذين صوروا للعامة هذا التصور السمج، وهو تصور خطير،  فيه تنقيص من أئمتنا، وطعن في أعلام السلف، وكأن الإمام مالك إمام دار الهجرة، والإمام الشافعي علم الدنيا في العلوم، والإمام أحمد إمام أهل السنة، والإمام أبا حنيفة إمام مدرسة الرأي ينهلون من التوراة والإنجيل وليس الكتاب والسنة ، فلم يفرق المسكين بين صياغة الفقه من الكتاب والسنة  له هو وأمثاله بما يفهمه بحسب قدرته العقلية التي ابان عليها بطرحه هذا , والاشتغال بالكتاب والسنة لمن بلغوا درجة الاجتهاد المطلق وهم العلماء الذين وجب تقليدهم، وقد قال القرافي رحمه الله في الذخيرة : يجتهد المقلد في الرجال كما يجتهد المجتهد في النصوص.

3-      لم يفرق المسكين بين المسائل الواضحات التي تناقلت لنا بالتواتر ولا تدخل في الفقه إلا تغليبا من جهة، لأن الفقه متعلق بالنظر ( الاجتهاد )، والمسائل الاجتهادية التي هي أس الفقه وكنهه الذي حصّلت علوم الآلة من أجله – ومجموع المسائل الاجتهادية هي مذهب الإمام – من جهة أخرى، فيستدل على دعواه – جهله – بالواضحات في ضرب المذاهب ثم يطرد القول على المسائل الاجتهادية على طريقة أهل البدع في التعمية والتلبيس وخلط المقدمات مكابرة للحق ونشرا للباطل.

4-      يأخذ المسكين ببعض الآيات التي أمرنا فيها بالنظر إلى دلائل عظمة الرب لنوحده في ألوهيته الواجبة، وهو من الإلزام بالربوبية على الالوهية، وهذا النظر لا يتخلف على عاقل لكون مقدماته ضرورية ( ما يدرك بالحواس الخمس )، ثم يطرد هذا النظر على المسائل العويصة التي لا يقوم لها إلا الأئمة الأعلام، قال الله تعالى : {  وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }، وفعله هذا فيه تعمية وتلبيس من جهة، وعلى فرض إغراقه في الجهل حتى لا يكاد يفرق بين العلم النظري والعلم الضروري، فإنه يشابه القوم الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض في أخذه ببعض الآي وتركه أخر، وإلا كيف نفسر التعسف في التأويل وتركه الواضحات المطردات في المنقول والمعقول.

وكانت من حجج هؤلاء الدعاة إلى عدم التقليد منحصرة فيما يلي :

1-      إحياء السنة عملا بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( من احيا سنة من سنتي قد اميتت بعدى ؛فان له من الاجر مثل اجر من عمل بها من الناس ؛لا ينقص من اجورهم شيئا )، ولبيان الفهم السقيم لهؤلاء الذين همّوا بتعطيل تراث أربعة عشر قرنا ألخص الرد في :

أ‌-        من الذي يحيي السنة أعامة الناس أم العلماء، فإن قلتم : العلماء الذين بلغوا درجات الاجتهاد فعرفوا العلل التي تعتري الحديث من نسخ، وروايته بالمعنى والتي خرجنا بها واقعا من مراد النبي صلى الله عليه وسلم إلى فهم الرواة، وهذه نكتة عظيمة لو يتدبرها طلبة العلم لرفعت كثيرا من الخلاف، وفي تي الحالة لا فرق ولا خلاف لأننا نقر الاجتهاد للعلماء وهذا الذي عليه العمل على مر السنين، ولا يكاد يعرف من أنكر الاجتهاد إلا من الردود التي بثها الائمة في كتبهم.

وإن قلتم : يجوز للعامة إحياء السنن إن كانت من الواضحات التي لا نحتاج  فيها إلى نظر، فنقول : هي من الواضحات التي غابت عن كل الأئمة والأعلام والفقهاء وعرفها العوام، كيف يعقل ذلك ؟.

ثم إن الاجتهاد تعلق بالخفي من المسائل لا بالواضحات، والمسائل الواضحة لا تدخل في مسمى الفقه إلا تغليبا لا بالأس بله أن تكون من المسائل الاجتهادية.

وإن قلتم : الإحياء العملي لا التنظيري، فنقول : إذا أنتم تقرون أن التأصيل قد اشبعه العلماء في المسائل الاجتهادية بله أن تكون المسألة من الواضحات.

 إذا لا خلاف في تي الحالة لأن العامي في باب كان مقلدا، وهل معنى التقليد إلا الأخذ بكلام أهل العلم أحياء كانوا أو أمواتا في المسائل التي صاغوها له بحسب قدرته على فهمها، ما لم تكن المسائل قد تعلقت بالنوازل فيقلد فيها الأحياء لا الأموات وإن كانت المسألة لها نظير عند من سبق لاحتمال اختلاف الحال الذي يحيط بها وله تأثير في الحكم.

ب‌-    حجة الله التي أخضع بها عباده لا يجوز لها أن تتخلف في أي مكان أو زمان، وذلك لأن أصل التوحيد وهو توحيد الربوبية دلت عليه الفطرة والضرورة والنظر والنقل فلا يكاد يجهله أحد مسلما كان أو غير مسلم، والتوحيد العملي وهو توحيد الألوهية الذي خلقنا من أجله هو التسليم بالأمر والنهي، ومن الأوامر والنواهي ما تعلق بأصل الإسلام ومنها ما لم يتعلق بذلك، فما تعلق بذلك لا بد له من القطعية في الثبوت والدلالة وهي التي سميناها بالواضحات وقد نقلت إلينا بالتواتر العملي كصفة الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج، وما لم يتعلق بأصل الإسلام كان غالبه ظنيا، والأصل فيه اعتقاد الثبوت بالنظر ثم تعظيمه تعظيما لأمر الله ونهيه والعمل بمقتضاه إيجابا أو سلبا، وتي المسائل التي وقع فيها الخلاف، ومنها السنن التي قد تدرس عملا فلا تكاد تعرف، وما كان هذا حاله تعلق بالعلماء ضرورة، فهم الدعاة لإحيائها لا غيرهم، وليس لغيرهم إلا التقليد.

2-      قول الله تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا }، وألزموا العامة في تفسير قوله ( ويتبع غير سبيل المؤمنين ) بالصحابة نصرة لمذهب

السلف، وهذا الكلام فيه تعمية وتلبيس وخلط للمقدمات على طريقة أهل البدع، ولرد هذا الكلام اقول :

أ‌-        فرضا أن المراد بالمؤمنين الصحابة، وأن الألف واللام للعهد الذهني كما هو متعارف عليه عند النحويين، رغم بعد هذا الاحتمال لعدم انصراف الذهن لهم ابتداء، فقد علم أن من الصحابة علماء فقهاء و عوام، ولا خلاف في أن عوامهم كانوا يسألون فقهاءهم، والأدلة في ذا الباب لا تكاد تنحصر كثرة.

ب‌-    ذهب جل المفسرين والأصوليين على الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع ولزوم العمل به، وكانت الألف واللام للاستغراق وليس العهد، وخصص العلماء دون عامة المؤمنين بقوله ( ويتبعون سبيل ) لأن العامة لا سبيل لهم إلا اتباع سبيل العلماء.

ورغم وضوح الدليل وبيانه أقول : لو سلمنا جدلا أن الدليل محتمل للمعنين لما جاز أن يستدل به أحدنا على الآخر، قال أحمد ولد مرابط :

وحيث دليل الحكم عنّ احتماله * فليس إلى استدلال مورده يرنى

3-      وجوب العمل بالكتاب والسنة دون كلام البشر وآراءهم، وقد بينت فساد هذا القول بما ألخصه ثانية في :

أ‌-        لو يقصد تخصيص التنظير من الكتاب والسنة بالعلماء فلا خلاف مطلقا، وإن قصد به العوام فلا، وإن قصد أن العامي يأخذ عمن اجتهد اجتهادا مطلقا أو مقيدا ونظر في الكتاب والسنة فلا خلاف في ذلك، أما إن قصد أخذه عمن هو دون ذلك فلا.

ب‌-    كلام البشر الذي ينبذونه لا يتعلق بالمسائل الواضحات فلا هو من منطوق القرآن ولا من منطوق ما تواتر من السنة بل يتعلق بالمسائل الاجتهادية، وهو في اعتقاد الناظر مراد الله الذي اراد لعباده الامتثال به، ونظر الناظر في النوازل أو المسائل الاجتهادية ليس كنظر العامي وقد أمر العامي باتباع وسؤال أهل الذكر والاستنباط للأدلة الآنفة.

4-      يستدلون بكلام أهل العلم كقول أهل العلم في الدعوى إلى الاجتهاد ونبذ التقليد كما نظمه بعضهم قائلا :

وقول أعـــلام الهـــــدى لا يعمل * بقولنا في خلف نــــــص يقبل

فيه دليل الاخذ بالحديـــــــــــث * وذاك في القديـــــــم والحديث

قال ابو حنيفة الامـــــــــــــــــام * لا ينبغي لمن له اســـــــــــلام

أخذا بأقوالي حتى تعرضا علـى * الكتـــاب والحديث المرتضى”

“كل كلام منه ذو قبــــــــــــول * ومنه مردود سوى الرســــول”

والشـــــــــــافعي قال “ان رأيتم * قولي مخــــــــــالفا لما رويتم

من الحديث فاضــــربوا الجدار * بقولي المخـــــــــالف الاخبار”

وأحمد قـــــــــال لهم “لا تكتبوا * ما قلته بل اصل ذلك اطلبوا”

دينك لا تقلد الرجــــــــــــــــالا * حتى تــــــــرى أولاهما مقالا

فانظر مقـــالات الهداة الاربعة * واعمل بها فــــــــإن فيها منفعة

لقمعها لكل ذي تعصـــــــــــب * والمنصفـــــــون يكتفون بالنبي

فمرادهم هو ذم التعصب ورد دعوى غلق باب الاجتهاد الذي رد عليه حتى أرباب المذاهب الأربعة، ولم يريدوا مطلقا الدعوى إلى نبذ التقليد أو التحذير منه مطلقا، ومفاد كلامهم أيضا عدم حصر التقليد في المذاهب الأربعة تواضعا منهم لا نفي التقليد، ولا أدل على ذلك من صياغة أرباب هذه الدعوى ( عدم حصر الاجتهاد في الأئمة الأربعة ) الفقه على طريقة الفقهاء للعامة كمتن الشوكاني رحمه الله تعالى ( الدرر البهية )، ولا خلاف معهم في جواز العمل بفقه المذاهب بل الخلاف في رده وجوب العمل بها دون غيرها، وقد استدل من حصر العمل بها دون غيرها بإجماع الأمة على ذلك بعد زمن الأئمة، ولا يجوز خرق الاجماع من جهة، ورعاية الفقه من جماعة من الأئمة لا إماما واحدا فقط، فليس المذهب مذهب الإمام مالك أو الشافعي أو حنفي أو أحمد بن حنبل بل مئات المالكية والشافعية والأحناف والحنابلة من أئمة الاسلام والفقهاء والعلماء.

وكملخص لهذا البحث المختصر أقول : كفانا من الشعارات التي تجرأ العامة وطلبة العلم على العلماء، وليكفنا ما اكتفى بها الأولون، وليسعنا ما وسعهم، والحمد لله أولا وأخيرا.

Comments are closed.