أسباب التغيير الكونية والثورات العربية

البحث عن السعادة الدنيوية بالأسباب الوهمية

الحمد لله القائل في كتابه: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، والصلاة والسلام على رسول الله القائل: (لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم)، والرضى على عمّ نبينا العباس بن عبد المطلب إذ قال: (إن هذا البلاء لا ينزل إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة)، وبعد:

فإن الله سنَّ سننًا كونيةً جعلها حكمًا على كل الخلوقين، وسنّ سننا كونية هي حكما على العباد، وجعل سنة على هذه السنن ألا تبديل فيها ولا تغيير، وقد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع، فمن أخذ بالأسباب الكونية تأتت له المسبَبَات، ومن تركها وراء ظهره تركته المسبَبَات وراء ظهرها، ومن الأسباب ما هو مادي، ومنها ما هو ليس كذلك كالدعاء في رد المكروه، ومن الأسباب المادية التي لا بد منها لتحسين أحوال الناس التغييرُ ما في النفس من الدرن لتتغير أحوال معيشتهم، ولا طمع في النتائج بلا تقديم أسبابها، وهذه سنة كونية لازمة فلا مطمع لها بلا أسبابها.

قد يعترض البعض أن الكفار رغم ما هم عليه من الكفر إلا أن أسباب المعيشة الحسنة متوافرة عندهم ، وقد نرى بعض البلاد الإسلامية فيها من سعة العيش ما الله به عليم، وهم لأنفسهم ظالمون، وللحرام منتهكون، وعلى أهل الصلاح متهوكون، فكيف التنسيق بين هذا الواقع الخارجي والتنظير العلمي الذي أتيت به، فنقول:

إن الله جعل سنة التغيير الموجبة للسعادة لازمة لتغيير ما في النفس من الدرن بنص الكتاب وقد تواتر هذا المعنى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد فهمه السلف فقد روي ما ذكرنا آنفا في المقدمة ما ورد عن العباس رضي الله عنه، وقد عزى بعضهم هذه الرواية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، والتغيير هنا الخروج من البلاء الذي قد يعتري المرء فينغص عليه حياته ويعكر عليه صفو معيشته، ولا يعني بأي حال من الأحوال أنه يفتح عليه من المال الوفير لأن المال بالنسبة للأعيان تحكمها الحكمة الإلاهية الواردة في الحديث القدسي: ( وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسدت عليه دينه)، فلم يتعلق رفع البلاء بسعة المال بل بالكفاف على البعض والسعة على البعض الآخر.

كما أن رغد العيش ظاهرا لا تلزم منه السعادة الدنيوية بله الأخروية فقد يكون البلاء في عين تلك السعة وهذا مشهود عند بعض من وسع الله عليهم وهم على معصية أو كفر، فتجده معذبا بسعة ماله أو جاهه، وقد ورد في الأثر: (من أحب شيئا لغير وجه الله عذب به)، وقد جاءنا النص البين من كلام الخالق الجبار: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، ليقطع كل شك ويدفع كل إيهام، ومَن مِن ألفاظ العموم المستغرقة ما لم تخصص ولا تخصيص فبقي العموم على عمومه.

فلا نغتر بما عليه الكفار ونعتقد أنهم في ضيق واضطراب ولا أدل على ذلك من الفراغ الروحي الذي يعالجونه وما ينتج عنه من كثرة عمليات الانتحار أو محاولته على الأقل، والحياة الشهوانية التي غلبت عليهم فأصبحت هي حاكمة لهم لا حاكمون لها، فأجريت عليهم سنن العجماوات لا سنن المكلفين .

ولو استقرأنا أحوال المسلمين لوجدنا ان أدواء الأمم كلها قد تفشت فيها وانتشرت واستحكمت ولا حدود للغي والفسق والفجور، بل والكفر بالله ظاهرا وباطنا، حتى أضحى الملتزم بدينه غريبا وسط الملتزمين بله الفاسقين بله الكافرين، فكيف نطلب التغيير بالثورات العربية وغيرها ولم نقدم ما يجب كأسباب التغيير.

سيقول أحدكم هذه المشكلة فما الحل، فنقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد ليسلطن الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى أمر دينكم)، والعينة هي أحد حيل اليهود في البيوع ليستحلوا الحرام، واتباع أذناب البقر أي اتبعتم الدنيا حتى شغلتم عن الآخرة، وتركتم الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام ورضيتم بالحياة الدنيا عن الآخرة ليعذبنكم الله في هذه الحياة بها ولا يرفع عنكم هذا الذل حتى ترجعوا إلى أمر دينكم، والله أعلم

Comments are closed.