سلسلة قول الأثبات في مسائل الصفات 24

نفي النوع لا يلزم منه نفي الجنس

( بيان أن القول بالجارحة اللا حسية لا يخرجها عن مسمى الجارحة الذي انعقد القول على كفر من قال بها).

اعلموا رحمكم الله أخي الفاضل أختي الفاضلة أن الحق مطرد يعضده المنقول والمعقول، وأن الباطل مضطرب يرده المنقول والمعقول، ومن المسائل التي خاض فيها العلامة ابن تيمية رحمه الله وقال فيها قولا لا أظنني قد اطلعت على من سبقه إليه من أهل السنة وهو القول: بالجارحة اللاحسية.

وسنرد القول الذي قال به العلامة ابن تيمية رحمه بطريقتين، مجملة ومفصلة:
– الطريقة المجملة:
عندكم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ( وأمامكم العمر كله ) استخرجوا لنا قولا واحدا ولو ضعيفا بل ولو موضوعا وردت فيه الجارحة اللاحسية.
وهنا أقول: لست أدري لما التكلف في نصرة قول ظهر ضعفه واضطرابه.
– الطريقة المفصلة:
الجارحة:
أ- قال ابن منظور في مادة (جرح): (… قال أَبو عمرو: يقال لإِناث الخيل جَوارِحُ، واحدتها جارِحَة لأَنها تُكسب أَربابَها نِتاجَها؛ ويقال: ما له جارِحَة أَي ما له أُنثى ذاتُ رَحِمٍ تَحْمِلُ؛ وما له جارحة أَي ما له كاسِبٌ.
وجَوارحُ المال: ما وَلَد؛ يقال: هذه الجارية وهذه الفرس والناقة والأَتان من جوارح المال أَي أَنها شابَّة مُقْبِلَة الرَّحِم والشباب يُرجَى وَلدُها.
وفلان يَجْرَحُ لعياله ويَجْتَرِحُ ويَقْرِشُ ويَقْتَرِشُ، بمعنى؛ وفي التنزيل: { أَم حَسِبَ الذين اجْتَرَحُوا السيِّئات} ؛ أَي اكتسبوها، فلان جارحُ أَهلِه وجارِحَتُهم أَي كاسِبُهم).
ب- قال ابن فارس في المعجم: (الجيم والراء والحاء أصلان: أحدهما الكسب، والثاني شَقّ الجِلْد.
فالأوَّل قولهم (اجترح) إذا عمل وكَسبَ. قال الله عزّ وجلّ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ}.
وإنَّما سمى ذلك اجتراحاً لأنه عَمَلٌ***بالجوَارح، وهي الأعضاء الكواسب.
والجوارحُ من الطَّير والسباع: ذَوَاتُ الصَّيد.وأما الآخَر [فقولهم] جرحَهُ بحديدةٍ جرْحاً، والاسم الجُرْح).
أقول: فالجارحة هي الأعضاء الكواسب كما هو منطوق ابن فارس ومفاد ابن منظور، وفرض نسبتها إلى الباري سبحانه تلزم تعلق أفعاله سبحانه بالأعضاء الكواسب، وهذا تخرص وتقوّل وقياس عالم اللاهوت على عالم الناسوت ولا دليل عليه، بل الدليل القائم عليه نفيه من المعقول والمنقول كما سيأتي في بابه.
والجارحة اسم فاعل مؤنثة؛ أي التي يجرح بها، فهي وصف من أوصاف العين، (وسيأتي في باب المنقول تعاضد أقوال أهل السنة على نفي الجارحة ورمي من قال بها بالكفر العام).
فالجارحة كلي لتعدد مصاديقها خارجا لرجوع كل الأعضاء التي يكتسب بها إليها، والجارحة لفظ عام مطلق، فهو عام لاستغراقه كل الأعشاء التي يكتسب بها ومطلق لأنه لم يقيد، والإطلاق أصل في النكرات وما جاء على أصله لا يسأل عن علته.
فالجارحة شيء ذهني لا وجود لها في الخارج إلا مشخصة وقد قدمنا سابقا أن الكلي لا وجود له في الخارج وهو باق على كليته.
والآن لنسلم تسليم الجدل ونقول: تمت شيء يسمى الجارحة اللاحسية في عالم اللاهوت، (وهو ضرب من التخرص والتقوّل الذي لا دليل عليه)، هل تخرج الجارحة اللاحسية عن مسمى الجارحة أو لا تخرج، وهل يشملها المحذور الذي قرر علماء أهل السنة قديما أن من قال بالجارحة يكفر أو لا يشملها؟؟؟.

من أوليات (ركز على قول من أوليات) علم المنطق أن المطلق أصل المقيد، وأن التقييد هو أحد أقسام المطلق إذا دخل على المطلق وصف قسم باعتباره، فينقسم المطلق إلى مطلق متصف بذلك الوصف وإلى مطلق غير متصف بذلك الوصف، ولو نسقط هذه الأولية على مسألة الجارحة اللاحسية، فاللاحسية وصف مقيد في اللفظ المطلق الجارحة، وبه تنقسم الجارحة إلى جارحة لا حسية وجارحة حسية، وبه نقول: لم تخرج الجارحة اللاحسية عن كونها جارحة.
سيقول المخالف: هذا الذي تقوله لا يخفى على عاقل ولم تأت بشيء جديد، ونحن نقول: إنما أنكر السلف الجارحة الحسية، وأطلقوا اللفظ المطلق (الجارحة) وأرادوا المقيد (الجارحة الحسية) فالمحذور ليس مطلق الجارحة بل الجارحة الحسية ولا محذور في الجارحة اللاحسية، وعلى هذا نحمل كلام الخطابي وأبي بكر الخطيب والسلف في الباب.
فنقول: أما السلف فلم يفسر أحد منهم الذوات بما فسرتها به، ولك أن تنظر كلام الخطابي وأبي بكر الخطيب بل لك أن تنظر كل كلام السلف ولن تجد من صرح بالجارحة اللاحسية، ومذهب الخطابي والخطيب التفويض لأنهم يثبتون المتشابه من الصفات إثبات وجود ثم يفوضون ولا يخوضون في الباب خوضكم، ولك أن ترجع إلى كتبهما وتدقق في قولهما، وستجدهما من أهل السنة المفوضة، وردهم في كتبهم لدفع منهج التأويل، والصراع الفكري والمنهجي بين المفوضة والمؤولة قديم.

وسيأتي إن شاء الله في حلقة مفردة علة إنكار الجارحة عند السلف رغم أنه لا دليل على صريح على إنكارها وتعظيم القول لمن قال بها حتى قالوا أنه يكفر بذلك.

والله تعالى أعلى وأعلم

Comments are closed.