سلسلة قول الأثبات في مسائل الصفات 9

الخلط في الماهيات

 النقطة الثانية: جعل التأويل مرادفا للتحريف

أما التأويل لغة فقد قال فيه:

– يقول ابن منظور في اللسان في مادة أول ما نصه:

(الأَوْلُ: الرجوع. آل الشيءُ يَؤُول أَولاً ومآلاً: رَجَع … وأَوَّلَ الكلامَ وتَأَوَّله: دَبَّره وقدَّره، وأَوَّله وتَأَوَّله: فَسَّره.

وقوله عز وجل: ولَمَّا يأْتهم تأْويلُه؛ أَي لم يكن معهم علم تأْويله، وهذا دليل على أَن علم التأْويل ينبغي أَن ينظر فيه، وقيل: معناه لم يأْتهم ما يؤُول إِليه أَمرهم في التكذيب به من العقوبة، ودليل هذا قوله تعالى: كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين.

وفي حديث ابن عباس: اللهم فَقِّهه في الدين وعَلِّمه التَّأْويل؛ قال ابن الأَثير: هو من آلَ الشيءُ يَؤُول إِلى كذا أَي رَجَع وصار إِليه.

والمراد بالتأْويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأَصلي إِلى ما يَحتاج إِلى دليل لولاه ما تُرِك ظاهرُ اللفظ؛ ومنه حديث عائشة، رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يكثر أَن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك يَتَأَوَّل القرآنَ، تعني أَنه مأْخوذ من قوله تعالى: فسبح بحمد ربك واستغفره) انتهى كلام ابن منظور.

– قال الجوهري في الصحاح: التَأْويل: (تفسير ما يَؤُولُ إليه الشيء). انتهى كلام الجوهري.

– قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة العربية مادة أول: (ومن هذا الباب تأويل الكلام، وهو عاقبتُهُ وما يؤُولُ إليه، وذلك قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ تَأْوِيلَهُ}). انتهى كلامه رحمه الله.

أقول بارك ربي فيكم: أصل لفظة التأويل مادة أول التي قال فيها ابن فارس وضعت للدلالة على مبدء الشيء ونهايته، والتفسير أحد إسقاطات الأول فكان من معانيه، ذلك أن منشأ الكلام من المتكلم والقصد قصده، والسامع يحاول أن يفهم من كلام المتكلم مراده، وقد يصيب السامع مراد المتكلم أو لا يصيبه، وقد نظم هذا المعنى ابن أبي عاصم اللخمي في المرتقى فقال:

والقصد بالوضع لقصد واضعه *** وذلك والاستعمال في مواقعه***والحمل الاعتقاد مما قصدا*** من ذلك الوضع الذي قد وردا*** وهبه قد أصاب في اعتقاده***أو خالف الواضع في مراده.

فتعلق التأويل لا بمطلق التفسير بل ما احتاج إلى نظر منه فقط، أي أن يطلب السامع مراد المتكلم من خلال النظر (أي اعمال فكر)، فخرج به المنطوق الواضح وضوحا قطعيا لأنه في نفسه مبدأ الشيء فلا يؤول إلى شيء ولا نظر فيه، وخرج به المنطوق الواضح وضوحا ظنيا لأن الأصل في الكلام التأسيس، والأصل بقاء الأصل على أصالته، فلا يؤول إلى شيء لأنه غلب على الظن أنه هو مبدأ الشيء فلا نظر فيه، وتخلص التأويل في المنطوق الذي لم يتضح وكان خفيا.

ولما كان الخفي محتاجا إلى ما يقويه ليظهر على الظاهر فيغلب على الظن أنه مراد للشارع وجبت قرائن تقويه.

وكل ما جاز فيه النظر جاز فيه الخطأ، فكان التأويل متأرجحا بين الصحة ونقيضها. فوجد تأويل صحيح وتأويل خاطئ، تأويل صحيح هو مراد المتكلم ، وتأويل خاطئ ليس مرادا للمتكلم، لهذا قال ابن ابي عاصم اللخمي: وهبه قد أصاب في اعتقاده***أو خالف الواضع في مراده.

أما التحريف فقال فيه:

– ابن منظور في اللسان مادة حرف: (والتحريف في القرآن والكلمة: تغيير الحرفِ عن معناه والكلمة عن معناها وهي قريبة الشبه كما كانت اليهود تُغَيِّرُ مَعانَي التوراة بالأَشباه، فوصَفَهم اللّه بفعلهم فقال تعالى: يُحَرِّفُون الكَلِمَ عن مواضعه.

وقوله في حديث أَبي هريرة: آمَنْتُ بمُحَرِّفِ القلوب؛ هو الـمُزِيلُ أَي مُـمِيلُها ومُزيغُها وهو اللّه تعالى). انتهى كلامه.

– قال الفيروزبادي في القاموس مادة حرف: (والتَّحْرِيفُ: التَّغْييرُ، وقَطُّ القَلَمِ مُحَرَّفاً.

واحْرَوْرَفَ: مالَ وعَدَل،كانْحَرَفَ وتَحَرَّفَ). انتهى كلامه.

– قال الجوهري في الصحاح مادة حرف: ( وتَحْريفُ الكلام عن مواضعه: تغييرُه.

وتحْريفُ القلمِ: قَطُّهُ مُحَرّفاً. ويقال انْحَرَفَ عنه وتحرّفَ واحْرَوْرَفَ، أي مالَ وعَدَلَ).انتهى كلامه.

أقول بارك ربي في وفيكم: التحريف لغة هو الميلان، وإذا حاولنا أن نجمع بين مادتي التأويل والتحريف سنجد أن لهما موضع اتفاق يجتمعان فيه، وموضع اختلاف لا يجتمعان فيه.

فهما بمعنى إن كان التأويل غير صحيح (ووجه الاتفاق الميلان عن إصابة مراد المتكلم)، ويختلفان باللزوم إن كان التأويل صحيحا.

 لكن الاشكال الوارد هل التحريف يطلق على مطلق الميلان أو يشترط فيه إرادة الميلان وهنا بيت القصيد، لأننا لو أطلقنا التحريف بالمعنى الأول فما من أحد إلا وهو محرّف فيه خصلة من خصال اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ذلك لظنية جل المدلولات النصية ولا يسلم من الزلل أي كان إلا إذا ادعيتم العصمة لغير الأنبياء، وإن قصدنا بالتحريف إرادة الميلان بمدلول النص عن مراد الشارع فهذا تكفير لأن فيه إرادة حجب معنى كلام الله تعالى، ونحن ننزه إخوتنا الحشوية عن تكفير أئمة كابن حجر والنووي رحمهما الله تعالى، ولست أدري كيف تأخذون العلم على من تلبس بالكفر، أو هو محرّف مخرف، والله المعين.

Comments are closed.