المخطط العام لدراسة علم النحو- الدرس الثالث –
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد:
بعد أن عرّفنا العمد والفضلات في الكلام، وجعلنا العمد ما تؤسس الكلام، والفضلات ما تتم معاني الكلام ولا تؤسسه، سيكون كلامنا إن شاء الله تعالى حول الحكم الإعرابي للفضلات بعد أن أشرنا إلى الحكم الإعرابي للعمد في الدرس الأول.
اعلم يا رحمك الله أن العرب تستقبح الثقل مطلقا كما سيأتي بيانه تفصيلا في الضوابط العامة لعلم النحو، ولكون الضمة ثقيلة لأنها تحدث بتحريك الفكين العلوي والسفلي كانت هذه الحركة لازمة للعمد ، وذلك لقلة العمد من جهة ، وعدم تكرارها من جهة أخرى ، خلافا للفضلات التي تعددت وجاز تكرار بعضها ، فكانت لها الفتحة كحكم إعرابي لخفتها، ذلك لأن الفتحة نحدثها بفتح فم دون تحريك الفكين.
ومن هذا التخريج نقول: كما أن الأصل في العمد هو الضمة أو ما ينوب عنها في عملية إعرابية سميت بالرفع لرفعة العمد في الكلام، فإن الأصل في الفضلات الفتحة أو ما ينوب عنها في عملية إعرابية سميت بالنصب لانتصابها لبيان ما تعلق بالإخبار من كل جهة.
وعلة النيابة عن الضمة والفتحة في الرفع والنصب هي التفريق بين الكلمة التي تكون أصيلة وما تفرع عنها، فالكلمة التي تكون أصيلة ترفع بالضمة وتنصب بالفتحة، وتجر بالكسرة كما سيأتي بيانه في محله، وأصول الكلمة نعدها في ما يلي :
– أن تكون مذكرة، لأن التأنيث فرع عن أصل.
– أن تكون نكرة، لأن التعريف فرع عن أصل.
– أن تكون مفردة، لأن التثنية والجمع فرع عن أصل.
– أن تكون مفردة، لأن التركيب فرع عن أصل.
– أن تكون مجردة، لأن الزيادة فرع عن أصل.
– أن تكون تامة، لأن الحذف فيها فرع عن أصل.
– أن تكون على وزن الأسماء، لأن وزن الفعل في الأسماء فرع عن أصل.
– أن تكون على الوضع العربي، لأن اللفظ الأعجمي المعرّب في اللسان العربي فرع عن أصل.
– أن تكون غير معدولة من كلمة أخرى، لأن العدل فرع عن أصل.
فإن اختلت هذه الأصول قد تتغير الحركة الإعرابية وتقع النيابة.
ومن النيابة ما هو طبيعي، وما هو غير طبيعي، فمن النيابة الطبيعية أن تنوب الواو عن الضمة لأنها ضمة مشبعة، والألف عن الفتحة لأنها فتحة مشبعة، والياء عن الكسرة لأنها كسرة مشبعة، ومن النيابة ما يكون غير طبيعية بأن تنوب الألف عن الضمة، وأن يكون إثباتُ حرفٍ دليلَ رفعٍ، وأن تنوب الياء عن الفتحة، والكسرة عن الفتحة، كما يكون حذف حرف دليل نصب، كما تنوب الفتحة عن الكسرة أحيانا.
وقد أشرنا من قبل أن العامل في العمد هو العامل المعنوي، وهو قوة الكلمة في الكلام كونها أحد طرفي الإسناد، والعمال في الفضلات هو العامل المعنوي أيضا، وهو ضعف الكلمة في الكلام كونها ليست أحد طرفي الإسناد، وقد أشرنا من قبل أن الكلام ينقسم بحسب إفادته إلى خبري وطلبي.
قال عبيد ربه في باب علامات الإعراب ( الأصيلة والنائبة ) :
ضم و واو ألف ونــــــــــــون * علامة الرفع بها تكــــــون
وقال :
علامة النصب لها كن محصيا * الفتح والألف والكسرة ويا
وحذف نون ، فالذي الفتــح به * ………………………
وقال :
علامة الخفض التي بها يفـي * كسر ويــاء ثم فتح فاعرف
ونقول أيضا الأصل في الكلمات أن تدل بمبناها على معناها ( دلالة وضعية ) ، ودلالتها بغير مبناها فرع عن أصل، وهذا الفرع يكون حال الالتباس، فالإعراب بهذا الاعتبار فرع عن البناء .
فكان الأصل في الأفعال البناء ، والأصالة هنا أصالة كثرة ، فالفعل الماضي والأمر لم يلتبسا فبنيا ، والتبس الفعل المضارع فأعرب ، وبيان ذلك كما يلي:
لنقسم الأفعال إلى ماض وأمر ومضارع لا بد من اعتبارين:
– الاعتبار الأول الزمن: ماض، حال، استقبال.
– الاعتبار الثاني الدلالة: الخبر، الطلب.
ولكون الاخبار جائز في الماضي والحال والاستقبال، ولا يجوز الطلب إلا في الحال، كان الإخبار في الماضي غير ملتبس وسمي بالفعل الماضي، والطلب في الحال غير ملتبس وسمي بفعل الأمر، والتبس الاخبار بين حال واستقبال في الفعل المضارع فأعرب دون الآخرين.
وجعل الرفع للدلالة على الحال فيه، والنصب للدلالة على الاستقبال، وسنفصل الموضوع في محله تفصيلا دقيقا.
وكانت الأصالة في الأسماء الإعرابُ ، والأصالة هنا أصالة كثرة أيضا ، لالتباس الاسماء في الدلالة بين المتكلم أو المخاطب أو الغائب من جهة ، والتباسها بين مخبر عنه يستحق الرفع ، أو واقع عليه الخبر فيستحق النصب بالشرط الذي افدناه سابقا ، أو ممن يستحق الجر كما سيأتي بيانه من جهة أخرى ، ولما كانت الضمائر دالة بالوضع على المتكلم والمخاطب والغائب ، ولها في كلها صيغ رفع ونصب وجر بقيت على أصالتها في البناء ، وقد تبنى الأسماء إن أفادت بما ينسب إليها كالإشارة والموصول التام للاستغناء بعارض للدلالة عن التغيير الذاتي في بنية الكلمة للدلالة على المعنى المراد .
وكانت الأصالة في الأحرف البناء ، والأصالة هنا أصالة قياس ( الأصل في الكلمة البناء ) وسماع ( بلا شذوذ ) ، لأنها لا تلتبس مطلقا ، ذلك لأن معاني الأحرف وإن التبست قبل بثها في الكلام إلا أنها تتجلى بالسياق وتفيد بما تنسب له كـ إفادة ( في ) الظرفية المطلقة قبل وضعها في الكلام ، وإفادتها الظرفية الزمانية أو المكانية بحسب ما سلطت عليه ( في يوم كان مقداره ) ( في بيوت أذن الله ) .
فإذا كانت الكلمة معربة، وكانت عمدة، وكانت في باب الإخبار فالرفع أصل فيها قولا واحدا، وما جاء على أصله لا يسأل عن علته.
وإذا كانت الكلمة معربة، وكانت فضلة، وكانت في باب الإخبار، فالنصب أصل فيها، وما جاء على أصله لا يسأل عن علته.
وقد ينسخ حكم الرفع في العمد، والنصب في الفضلات، لعامل لفظي، وقد أشرنا إلى النواسخ في الدرس الأول.
ملاحظة :
يعلل النحويون إعراب وبناء الأسماء بشبهها بالأحرف من عدمه , وقد جعلوا أنواع الشبه اربعة فقال ابن مالك :
كالشبه الوضعي في اسمي جئتنا * والمعنوي في متى وفي هنا
وكنيابة عن الفعــــل بـــــــــــــلا * تأثر وكافتقــــــــار أصــــلا
كما جعلوا الأصل في الأفعال البناء إلا المضارع منها لشبهه بالأسماء ، ثم جعلوا وجه الشبه ما نظمته قديما من كتاب سبويه :
قد شابه المضارع الأسماء في * تخصص من بعد إبهام وفي
قبول لام زحلقت من بعــد إن * هذا الذي في سبويه قد زكن
كما جعلوا الأصل في الأحرف البناء مطلقا .
وأظن أن التعليل الذي أعلل به اقوى من تعليل عامة النحويين إذ أربط البناء والإعراب بالتباس المعنى من عدمه ، وهو مطرد في كل كلمة اسما كانت أو فعلا أو حرفا ، فما دل بمبناه على معناه ولم يستند في مدلوله على غيره فهو الأكمال ، وما دل بما نسب إليه بوجه من الأوجه ولم يتغير مبناه فهو على أصله للاستغناء بعارض عن التغيير الذاتي لبنية الكلمة ، وما تغير مبناه للدلالة على معناه فهو خلاف الأصل ، لأن التغيير فرع عن عدمه ، والله تعالى أعلى وأعلم .