الاستقراء وتقسيم التوحيد (الجزء الأول)

الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على نبيه وعبده وعلى آله وصحبه ووفده وبعد:

فلما كان الاستقراءُ عمدةً في العلوم النظرية المفيدةِ للقطع إن كان كليا تاما، أو حفه إجماع، أو قول جمهور، أو وافق اطرادا عقليا، والمفيدة للظن إن كان ناقصا أو لم يحفه ما يوجب قطعيته مما ذكرنا.

ولما كان التقعيدُ التنظيري فقها وعقدية مبنيا عليه مطلقا لتعلقه به مباشرة ، أو تعلقه بالقياس الشرعي الذي لا ينفك عن الاستقراء مطلقا خلافا لما درج عليه الأصوليون كما سيأتي بيانه في محله مفصلا، كانت معرفتنا لهذا النوع من العلوم من الضرورات الشرعية لطلاب العلم والعلماء لحسم الخلاف في مسائل كثيرة عقدية كانت وفقهية، خاصة إذا علمنا أن الخلاف السائد في المسائل المتعلقة بالاستقراء لا يخرج عن اختلاف في آلية الاستقراء ( الاعتبارات ) أو دقة الناظر أو حصر المادة المستقرأة، أو طريقة الاستقراء.

والاستقراء في العرف اللغوي: هو الطلب بالقراءة قال ولد زين في احمراره على لامية ابن مالك رحمهما الله في بيان معاني استفعل:

باستفعل اطلب تحول طاوع افعـــــل أو * وافق تفعل أو وافـــــــــــق به افتعل

أو الثلاثي كاستغنى وجــــــــــــــــــاء به * وقد يكون على الوجدان مشتملا

وقد قال صاحب اللسان: (واسْتَقْرَأَه طلب إليه أَن يَقْرَأَ ).

أقول: ليس هذا مرادنا، بل المراد بالاستقراء الطلب بالقراءة لا طلب القراءة ، ولا يدخل في مرادنا أيضا قول صاحب اللسان: (.واسْتَقْرَأَ الجَملُ الناقةَ إِذا تارَكَها ليَنْظُر أَلَقِحَت أَم لا ) لأن أصل مادتها القرؤ لا القراءة.

وفي عرف المناطقة:  قال ابن عاصم اللخمي في المقدمة المنطقية من مرتقى الوصول إلى علم الأصول:

ونــــــوع الاستقراء في التفسير * تتبع للحكم في الأمـــــــــور

فيحصل الظن بأن الحكم قد * عم من الأفراد كلما وجد

وربما يبلغ في ذا الحـــــــــــــكم * مبلغ أن يفيد حــــال العلم

كعلمنا في النحـــــو أن الرفعا * قد عــمّ كل الفاعلين قطعا

ولا يزيل القطـــــــــــــع بالكلية * تخلف إن كــان من جزئية

وعرف الاستقراء عند الأصوليين لا يخرج عن عرف المناطقة إلا في تعلقه بدلائل الفقه الإجمالية، قال بان أبي عاصم اللخمي في مرتقى الوصول إلى علم الأصول:

وهاك الاستقراء خذه رسما * تتبع الجزئي حكما حكما

ثم يرى والحكم فيه يطــــــــرد * بذلك الحــكم بحيثما يرد

وربما قد ينتهي في الشـــــــرع * لأن يفيد فيه حكم القطع

فحده في المنطق أعم متعلقا وهو مساوق لحده عند الأصوليين إن خصص لمسائل دلائل الفقه الاجمالية.

ويعتمد بعض الأصوليين تفصيل الاستقراء ثم حدّه، فيفردون الاستقراء الكلي بحدّ، والناقص بحدّ مباين له تنبيها على مباينة التام المفيد للقطع عن الناقص المفيد للظن.

فقال الأسنوي: فالتام إثبات حكم كلي في ماهية لأجل ثبوته في جميع جزئياته. وقال الزركشي في البحر المحيط: والناقص إثبات الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته من غير احتياج الى جامع.

قد يستشكل بعض من اشتغل بالعلوم العقلية إفادة الاستقراء وإن كان تاما للقطع، وهو متعلق بالنظر مطلقا، وما كان متعلقه النظر كان احتمال الزلل وارد من ثلاثة أوجه كما بينتها في غير هذا الموضع، فقد يرد الزلل من المادة المنظورة، أو الناظر نفسه، أو آلية النظر.

وعامة من اشتغل بالعقليات من أهل السنة لم يفرق بين العلم الضروري الذي لا يلتبس بالظن مطلقا فلا يوصف بالقطع لأنه مطابق للواقع من كل وجه خلافا لما يتصوره بعض من لم يتصور علم المنطق، وقد عرف أبو إسحاق الشيرازي الضروري في اللمع فقال: كل علم لزمك لزوما لا تستطيع أن تدفعه عن نفسك بشك أو شبهة، وكان مستفادا من الحواس الخمس، أو ما بثه الله فينا من البديهيات والمسلمات التي لا يشكك فيها عاقل – على قول وهو مرجوح عندي -، والعلم النظري الذي ينتج عن نظر ولا يستفاد من الحواس الخمسة، بل محله العقل الذي يجعل ما يفيده من الضرورات المفادة من الحواس الخمسة والبديهيات والمسلمات ليحكم في المسألة بعد تصورها، فتحتمل الخطأ والصواب حسب مطابقتها للواقع إن كانت في باب التصديق أو التصور الصحيح في باب التصورات كما بينته في غير هذا الموضع ، وقد يكون مفاد العقل ظنيا ( أي نسبيا ) وقد يترجح بقوة فيقطع به الناظر  – واستعمال الظن بمعنى القطع لسان الشرع قال الله تعالى: ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) لأن المراد بالظنية هنا النسبية الراجحة بقوة حتى يقطع بها القلب لا الظن المتأرجح بين الشك واليقين، وذلك لأن القطع في باب الإيمان بأصول الإيمان شرط صحة لا كمالا فيها كما بينا في غير هذا الموضع،  ويسم المتشرعة هذا النوع الظن باليقين والجزم، وقد تكون الظنية متأرجحة بين الشك واليقين فلا يقطع بها القلب ولا تسكن لها النفس، ولا يكون بها العلم للا حكم فيها كما بينا في غير هذا الموضع، ويسم المتشرعة هذا النوع من الادراك بالظن، ومنها قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ )، فكان الظن في لسان الشرع له إطلاقان، إطلاق بمعنى مطلق الإدراك، وإطلاق بمعنى الإدراك المطلق، ففي الأول يكون بمعنى العلم كما حده المناطقة، وفي الثاني يكون بمعنى العلم كما حدّه الأصوليون، وتعريف الأصوليين هو لسان المتشرعة .

ولا يشترط في قطع الناظر أن يكون في قطعيته موافقا لما عليه الأمر من كل وجه، بل قد يكون مخالفا لما عليه الأمر من كل وجه، فإن كان قطعه موافقا لما عليه الأمر من كل وجه كان عقد قلبه على المسألة عقدا صحيحا ( ويسمه المتشرعة بالاعتقاد الصحيح )، وإلا فعقده خطأ من كل وجه، أو من أوجه دون أوجه، فيكون عقد قلبه فاسدا بالأس كاعتقاد النصارى أن المسيح ابن مريم عليه السلام هو ابن الله سبحانه ( تعالى الله عما يقول الظالمون الذين ما قدروا الله حق قدره )، أو فاسدا من وجه دون وجه كفساد عقائد بعض الفرق الاسلامية التي خالفت الحق في فروع مسائل العقيدة، كالتفريع على القول في أصل مسألة الصفات من نفي مجمل وإثبات مفصل على طريقة أهل السنة، وذلك بعد استقرار النفس على إثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله أو نفاه رسوله عنه، فيقع الخلل في مفهوم نص لصفة، أو ما يتوهم أنها كذلك، أو في حدّ الصفة نفسها، ومسألة القياس الأولوي الذي ذهب إليه بعض الأعلام تفريعا، ومسألة المشترك المطلق الكلي وتعلقه بأسماء الأعيان وأوصاف الأعيان مما خاض فيه أهل العلم، واختلفوا فيه واضطربوا -.

فيرد على المستشكل: المسائل الاستقرائية التي أثرت في الجانب العقدي والفقهي لا تكون مجردة عما يؤيدها ويحفها فيزيل عنها الشبهة إن وردتها، فلا تخلوا المسائل العقدية التي انبنت بالأس على الاستقراء كتقسيم التوحيد من موافقة اطراد عقلي أو إجماع أو قول جمهور.

فكان هذا الذي يحفه جابرا لكسر الاستقراء إن وجد، وهو موجب للعمل إن تعلق بالعبادة، وموجب لعقد القلب إن تعلق بالإيمانيات.

 وأما وجود استقراء محض مجرد عن إجماع، أو اطراد عقلي، أو عنهما، أو مجرد عن قول جمهور على الأقل، فهذا مما يتصوره الذهن ولا حقيقة له في الواقع، لأن الشرع إنما جاء ليعمل به عملا بدنيا أو قلبيا، وما كان مشرعا به للعمل يحيل العقل أن يخلو زمن أو مكان من عامل به، لهذا اشترط المالكية أن يؤيد النص بعمل السلف خلافا لبعض المتأخرين، ولأن المسائل قد أشبعت بحثا، ولا تجد مسألة توجب العمل ولا تتعلق بالنوازل أو توجب العقد القلبي ولا تتعلق بالتخريج إلا ولأهل العلم فيها ما يغني لمن أراد أن يستغني.

أما النوازل فمحلها القياس كحكم، نفيد من القياس مراد الشارع، وتحقيق مناط الشارع بإنزال الحكم على الأعيان كفتوى تعلقت بمكان أو زمان له ما يخصه، والقياس هو قياس ما لم يرد على ما ورد إن اتفقت العلة فكان القياس متعلقا بالاستقراء تعلقا مطلقا، وكانت الفتوى النازلة متعلقة بالاستقراء تعديا لتعلقها بالقياس وتعلق القياس بالاستقراء… يتبع

Comments are closed.