مسألة استدلال العلامة ابن تيمية رحمه الله بالحافظ أبي بكر الخطيب والإمام أبي سليمان الخطابي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد:

اعلم يا رحمك الله أنّ الحق مطرد يصدقه المنقول والمعقول، وأنّ الباطل مضطرب إن صدقه معقول رده معقول أو منقول، وإن صدقه منقول ردّه منقول أو معقول، وقد أشار العلامة ابن تيمية رحمه الله أن المسألة الصحيحة يحسن تصورها عكس المسائل الباطلة.

 وكلامنا في الباب لا يعني بحال من الأحوال أننا نطعن في إمام من أئمة المسلمين فهو عندنا محفوظ قدره طيب في قلوبنا مقامه، ولكننا ننظر نظره هل أصاب فيه أو جانب فيه الصواب.

وقد اشرت في السلسلة (الحلقة 26) أن الدلالة الظنية تعددت مدلولاتها بتعدد المعاني المحتملة للدليل، ويتجلى هذا الأمر في هذه المسألة، فقد تنازع القوم في شأن بعض الأئمة الذين نسبهم بعض الأئمة إلى المذهب الأشعري الأول الذي كان عليه أهل السنة من التفويض، ونسبهم العلامة ابن تيمية إلى منهجه وخالف من قبله في نسبتهم إلى مذهب الأشعري، وقد ذهب بعضهم إلى رجوع الخطابي رحمه الله عن مذهب التفويض إلى الإثبات على الظاهر، وكلامهم مردود جملة وتفصيلا، لأن الكلي التنظيري الذي يستدل به العلامة ابن تيمية رحمه الله هو عين النص الذي يستدل به من خالفه في الباب، وهو النص المشهور عنه الذي قرره في “الغنية عن الكلام وأهله”، فكان لزاما من النظرِ النظرَ الصحيح الرافع للبس وبيان الأمر على ما هو عليه، وقبل أن نشرح الباب شرحا مفصلا لابد من بثّ بعض المقدمات على وجه الإجمال تساعد على فهم المبحث الفهم الجيد كنت قد فصلتها في (سلسلة الرد على الحشوية والمجسمة)، ومن أهمها أن:

–       التكييف لا يدفع الظاهر ولكن يثبته.

–      الظاهر هو المدلول الواضح وضوحا ظنيا، وهو المتبادر الى ذهن العربي حال الاطلاق، والظاهر الذي لا يتبادر غلى الذهن ليس ظاهرا (فالعبرة بحقائق الأشياء لا المسميات).

–      ظاهر الصفات هو المشترك المطلق الكلي وهو الذي نسميه بالأوصاف المطلقة، كالرحمة في رحيم، والعلم في عليم.

–      ظاهر الأفعال هو المشترك المطلق الكلي هو الذي نسميه بالمصدر، كالرحمة في رحم يرحم، والعلم في علم يعلم.

–      ظاهر الذوات هو المشترك المطلق الكلي العيني، وهو العين المجردة عن كل المشخصات كاليد في (يد زيد) و (يد السبع).

–      نسبة عين الذات إلى عين الذات ممتنع عقلا.

–      لا خلاف بين أهل السنة قاطبة في الصفات التي هي صفات، والتي وردت على وزن فاعل أو فعيل أو فعلان أو فعول، وهي الورادة في (التسع والتسعين) وهي التي جعلها الله سبحانه أسماء له على وجه العلمية (العلمية بالغلبة)، وقد تكون على وزن مفعول أو أفعل.

–      نسبة ما يعرف عندنا بالجزء والبعض إلى الله تعالى هي نسبة كينونة، والوصفية في الكينونة لا في عين ما يعرف عندنا بالجزء والبعض.

–      إثبات الوجود الذي نقله ابن تيمية رحمه الله من الإمامين الخطابي والخطيب لا يفض النزاع، لأن محل الخلاف هل هذا المثبت معلوم أو مجهول.

–      وقع إجماع السلف على نفي الجارحة كما نقل هذين الإمامين وأقرهما ابن تيمية واستدل بها في مواضع من كتبه.

فإن ظهرت هذه المقدمات التي بسطنا القول فيها على ما ينفع هذا المبحث في السلسلة وإلا فالكلام فيها لا يتوقف على ما ذكرت نبدأ بتفصيل القول بشكل صحيح:

بني قولي الإمامين الخطابي والخطيب على بعض الأصول تحكم قولهما:

–      إجراء النصوص على الظاهر وإثباتها.

–      إثباتها إثبات وجود لا تحديد فيه ولا تكييف، لأن الوقف ورد بها.

–      عدم القول بالجارحة وأدوات الفعل.

ولو نأخذ صدر كلامهما والإعراض عن لاحقه سيكون مذهبه هو إثبات الظاهر في كل ما نسب إلى الله تعالى من الأوصاف والأفعال وما يعرف عندنا بالجزء والبعض.

ولكن يقع الإشكال في قوله: ولا يقال هي جارحة أو أدوات فعل.

–      فما هي الجارحة؟، الجارحة: من جرح يجرح أي يكتسب، ومنها الأعضاء لان صاحبها يكتسب بها، وقد نفى الإمامان جنس الجارحة لأنه لفظ عام مطلق لا يخصص ولا يقيد إلا بدليل، وهذه نصوص السلف كلها لم ترد فيها لفظة واحدة تقيد الحظر بالجارحة الحسية، وتجعل الجارحة اللاحسية لا محظورة.

–      وما هي أدوات فعل؟، أدوات فعل: هي أدوات تصدر عنها الأفعال، والمنهي عنه أن نجعل للأفعال أدوات، أي أنه يسمع بحاسة السمع، ويبصر بحاسة العين، ويتكلم بحاسة الكلام، ويمشي بحاسة المشي، ويهرول ويجري بها، ويبطش ويعطي ويقبض ويبسط بحاسة اليد.

ونحن لا نناقش هنا هل هذا حق أو باطل، ولكن النقاش يدور حول تسليم العلامة ابن تيمية لهما فيما ذكراه ومخالفة التنظير الذي ينظره في الباب لما جاء به.

فإذا قلنا الآن بالإثبات الوجودي، مع الظاهر الذي هو ما يتبادر إلى ذهن العربي حال الإطلاق، سيكون كلام الأئمة موافقا لما عليه الفكر السلفي من حيث التنظير في اللاهوتيات، وإذا قلنا بالإثبات الوجودي مع قطع ظاهر ما يعرف عندنا بالجزء والبعض فسيكون مذهب التفويض هو القول الوحيد والخلاف مرفوع لا شك في رفعه.

فهل اضطرب الإمامان وناقض آخر كلامهما أوله، وهل مذهب السلف ينقض أوله آخره، فهم على اعتباره نقلة مذهب السلف في الباب وهما إمامان مرضيان.

ولتخريج القول دفع الاضطراب عن مذهب السلف لا بد من تقسيم الصفات إلى قسمين:

–      صفات هي كمال، وهي بدورها تنقسم إلى قسمين:

أ‌-   كمال مقطوع بكماله.

ب‌-          كمال مظنون في كماله.

–      صفة هي نقص، وهي بدورها تنقسم إلى قسمين:

أ‌-   نقص مقطوع بنقصانه.

ب‌-          نقص مظنون في نقصانه.

وقد فسرت هذه المسألة بما لا يدع مجالا للشك أن الكمال المقطوع بكماله كالكمال الوارد في حديث تسع وتسعين، هذا ينسب إلى الله تعالى على ظاهره القطعي (النص الأصولي)، وإن كان كمالا مظنونا في كماله كالأفعال التي وردت في الصفات الخبرية من الضحك والعجب والغضب ووو فهذه اختلف العلماء والأئمة في إثباتها بحسب مذهبهم فيها لأنها مسألة اجتهادية، فمن قال: إن الضحك صفة كمال، اعتقد أنه لا يعدم خيرا من رب يضحك، ومن قال: إن الضحك صفة نقص، اعتقد أن الضحك لا يليق من كان بكل شيء عليم.

وإن كان الوصف نقصا صريحا فهو مصروف عن الله قولا ولا خلاف في ذلك بين أهل السنة، ومن ذلك وصف الملل ووصف النسيان، وقد انعقد قول الأمة على وجوب تأويل هذين الوصفين، وهما جزئيتان تنقضان الكلي الموجب الذي يطلفونه بدون تقييد في قولهم: نثبت كل وصفٍ وصفَ الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لهذا نحن نقيده بضميمة الكمال تحرزا من هذا المأخذ.

وإن كان نقصا غير صريح فالمنهج فيه عين المنهج في الكمال المظنون، لإن اعتقد الناظر النقان صرفه عن الله وجوبا، وإن لا فلا وعامله معاملة الكمال وأثبته بالظاهري القطعي وهو (النص الأصولي).

وهذه الكلية أشار إليها الإمامان الخطيب والخطابي، وهي جامعة مانعة في الباب وتجمع كلام السلف كله.

 ولنا أن نفرع على هذه القسمة، قسمة أخرى:

–      أوصاف لها مشترك مطلق كلي هي كمال صريح أو ظني من الأفعال والأوصاف وجب إثباتها لله تعالى بالظاهر القطعي كخالق ويخلق وعالم ويعلم وراحم ويرحم وسميع ويسمع ومتكلم ويتكلم وووو.

–      أوصاف لها مشترك مطلق كلي هي نقص صريح أو ظني من الأوصاف والأفعال و(الذوات على قول الإمامين) وجب صرفها عن الله تعالى كالملل والنسيان والجارحة وأدوات الفعل.

وبه ترفع شبهة الاضطراب الذي تعرض على الإمامين رحمهما الله ويتبين اطراد قولهما فيما ذهبا إليه، ويترجح أنهما كانا على المذهب الأشعري الأول (التفويض) لأن اليد التي ليست جارحة ولا يربط فعل البطش والبسط والقبض والعطاء والبدل والقدرة مدلولها ليس واضحا ولا خفيا بل مدلولها مجهول، ولا يكابر في هذه المسألة عاقل، وبه يخرج معنى إثبات الوجود الذي قال به الإمامان.

والآن نطرح سؤالا: هل سلكنا في هذه المسألة طريقة المتكلمين، والجواب: لا وألف ولا، بل تم مناقشة العلامة ابن تيمية بنفس طريقته التي يرد ويخرج بها كلام غيره

ومع كل هذا أقول: هذه مسألة علمية، والذي دفع إلى تسويدها هو انتشار مذهب التجسيم انتشارا واسعا حتى أنني وجدت من يقول: وإن كان الخطابي والخطيب أشعريين فهذا لا يضر لأن الحق نعرف به الرجال ولا يعرف الحق بالرجال، فضربوا كل النقول عرض الحائط، ويريدون فرض فكرهم على العامة، ونسوا أن الدين حفظه النقلة، ولم يكن دينا لن يكون اليوم دينا، وما كان ينا لن يعدم أن يكون اليوم دينا

والسلام ختام

Comments are closed.