فقه النحو – الدرس الثاني

الدرس الثاني – المخطط العام لدراسة علم النحو –

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد:

قدمنا في الدرس الماضي فقلنا: إنّ الفضلة تتمم المعاني ولا تؤسسها، وقلنا أيضا: توهم بعض النحويين أن الفضلة تعرب ظاهرة لا مقدرة خلافا للعمد التي تعرب ظاهرة ومقدرة لعدم تمام بناء الكلام إلا بها، والحق الذي لا مرية فيه أن في المسألة تفصيل، وهو على النحو التالي:

الإعراب كما هو معلوم عند عامة النحويين يندرج تحت المعاني، وهو وسيلة لفهم السامع مراد المتكلم، ولنا أن نشعب هذه النقطة حتى نجلي الكلام كاملا فنقول: طرفا الكلام هما المتكلم والسامع، والقصد هو قصد المتكلم قولا واحدا لا يخالف في ذلك عاقل ، فكان لإعراب كلامه وجهٌ واحدٌ فقط ، ويحاول السامع أن يفهم من كلام المتكلم مراده.

 والإعراب عند السامع متعدد بتعدد المعاني المحتملة التي يحتملها اللفظ الذي أنشأه المتكلم، قال ابن أبي عاصم اللخمي:

والقصد بالوضع لقصد واضعه * ذلك والاستعمــــــال في مواقعه

والحمل لاعتقاد فيما قصـــــــدا * من ذلك الوضع الذي قد وردا

وهبه قد أصــــــاب في اعتقاده * أو خـــــــالف الواضع في مراده

وإذا تعددت المعاني بتعدد الإعراب لكلام واحد لزم أن يكون منها ما هو ظاهر يمنع غيره، ومنه ما هو ظاهر لا يمنع غيره، ومنه ما هو غير ظاهر فكانت المعاني في هذه الحالة متقاربة لا نستطيع الترجيح بينها ، كل بحسب بيان المتكلم أو عدم بيانه ، وقد يرجع عدم الظهور إلى تقصد التعمية ، والأول يعرف عند الأصوليين بـ النص، والثاني بـ الظاهر، ويقابله الخفي، وقد يترجح الخفي بقرائن لفظية أو معنوية فيكون المؤول، والثالث يعرف بـ المجمل.

فلو تكلم زيدٌ من الناس سائلا عمرواً من الناس فقال له: من الذي زارني في غيابي منتصف نهار أمس، فيقول عمرو: زيدٌ زارك، يكون الظاهر الذي ينفي غيره هو: زيد زارك في غيابك منتصف نهار أمس، ذلك لأن عمروا أجاب بلسان عربي ، واللسان العربي يتستقبح الثقل مطلقا ، ومن القواعد العامة التي سنذكرها وتحكم هذا الباب لاحقا : ( ترك الحذف عندما يدل عليه الدليل خلاف الأولى ) ..

فلو أعربنا جواب عمروٍ دون اعتبار تيك الفضلات التي تتم المعنى الذي أنشأ من أجله الكلام كان وجود الاعراب وعدمه سواء لانتفاء العلة التي من أجلها وضع هذا العلم بالأسّ، ومن حذف الفضلة في أحسن الحديث قول الله تعالى: { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } وتقدير الآية: وإذ استسقى موسى لقومه، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر تنفجر اثنتا عشرة عينا، فضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.

أما إن لم يدل على الفضلة دليل لفظي أو معنوي فلا تقدير لها ولا إعراب، بل تقديرها وإعرابها تعسف في نفسه ، وتكلف ما لا يراد، كقولي مثلا: ( أنزل ربي كتابا كريما يهدي إلى صراط مستقيم )، فلو قدرت مثلا فقلت: ( أنزل ربي على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا كريما بواسطة جبرائيل عليه السلام ليلة القدر من شهر رمضان يهدي الناس من لدن محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة  إلى صراط مستقيم )، لخرجت وتكلفت مالا ينبغي أن أتكلفه لتمام المعنى المراد توصيله بدون هذه الزيادات كلها.

والقاعدة العامة في تقدير الإعراب من عدمه هي: كل ما حذف ودل عليه الكلام ولا يتم المعنى إلا به وجب تقديره مطلقا سواء كان المقدر عمدة أو فضلة، واطرد التقدير في العمد لأنها تؤسس الكلام، أما  الفضلة فتعرب إن قدرت، ودلّ عليها دليل، وإلا فلا.

والفضلات إما أن تتعلق بالإسناد فتجليه وتتمم معناه، وهي التي تعرف بـ المفاعيل، فتدل على من وقع عليه الفعل إذا أسند الفعل للفاعل فتكون ( مفعولا به )، وإلا كانت عمدة ( نائبا للفاعل ) كـ (ضرب زيدٌ عمروا ) في الأول، و(ضُرِبَ عَمْرٌو) للثاني، أو وقت وقوع الإخبار فتكون ( مفعولا فيه إن سلطت عليها معنى في )، أو مكان وقوع الإخبار فتكون ( مفعولا فيه إن سلطت عليها معنى في )، أو كانت الفضلة حدثا مطلقا من لفظ المخبر به أو معناه يأتى به لتأكيده ودفع المجاز عنه فتكون ( مفعولا مطلقا )، أو كانت حدثا مطلقا سلطت عليه معنى لام التعليل ولم تباشره فتكون ( مفعولا لأجله )، أو كانت بعد واو معية مسبوقة بحدث يكون الزمن جزءاً منه أو فيه فتكون ( مفعولا معه ) كـ ( سرت والنيل ) في الذي يكون الزمن جزء منه ، و( أنا سائر والنيل ) في الذي يكون الزمن جزءًا فيه .

أو تتعلق بالمخبر عنه أو من وقع عليه الإخبار، وتكون وصفا نكرة يأتي بها لبيان حال المخبر عنه أو من وقع عليه الإخبار وتصلح لأن تكون في جواب كيف فتكون ( حالا ).

أو يأتى بها للدلالة على انبهم من الذوات فتكون ( تمييزا ).

أو لإدخال ما يتوهم خروجه أو إخراج ما يتم إدخاله فتكون (استثناءً).

أو تكون تابعة لغيرها بيانا وتخصيصا فتكون (صفة ) ولها حكم متبوعها فالتابع للعمدة عمدة، وللفضلة فضلة، أو موطئة لما بعدها فتكون (بدلا)، أو تفسيرا لما قبلها فتكون ( عطف نسق ).

وهذه الأساليب وإن اشتركت فيها كل اللغات إلا إنّ الاصطلاحات التي عبرنا بها هي عرف النحويين.

fiqh_nahw2_001

Comments are closed.