سلسلة قول الأثبات في مسائل الصفات 35

أقوال جمهور المفسرين في قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله)

اعلم رحمك الله أن تفسير الآية الكريمة (وما يعلم تأويله إلا الله) حَكمٌ في ضبط المنقول الذي ورد في هذا الباب العظيم من الأبواب العقدية التي تفرقت الأمة بسببه أحزابا وشيعا، وهو كما لا يخفى على أحدٍ بابٌ دقيقٌ جدا تعسر فهمه على خواصِ خواصِ هذه الأمة بله عوامها وأشباههم ممن تلبسوا بلباس العلم، والعلم منهم براء، ولست أدري كيف تجسر اقوام على مثل هذه الأبواب بفهم سقيم وعقل عقيم ثم نشروا نتاجهم الفاسد بين العامة ليفتنوهم في دينهم ويشغلوهم بالجدل عن الخشية، وقد علموا بالقطع أن التكليف بما لا يستطاع ممتنع عقلا وشرعا، وأن المجتهد إن أفرغ وسعه وبدل جهده فهو معذور في مسائل العلم والعمل على حدّ سواء.

وسأعرض في هذه الحلقة إن شاء الله قول عامة المفسرين الذين طالتهم يدي، وسأقدم له بمقدمة كلية أبيّن فيها معنى الآية على ما أعتقد وأخرج فيها كلام الأئمة تخريجا يليق بمقامهم رحمة الله عليهم أجمعين، كما أنني سأناقش من أخالفه بالمنقول والمعقول حتى يتجلى المقام تجليا صحيحا صريحا.

المقدمة الأولى:

اختلف العلماء في الوقف هل يكون على (إلا اللهُ) أو (الراسخون في العلم)، وحُصرَت أقوالُهم في ثلاثة أقوال:

  1. الوقف على (إلا الله) وهو قول جمهور الصحابة والتابعين وأئمة اللغة والنحو كما نقل غير واحد من المفسرين، ويؤيد هذا المذهب قراءة أبي وابن عباس وابن أم عبد.
  2. الوقف على (والراسخون في العلم) وهو قول مجاهد نقله عن ابن عباس وغيرهم.
  3. جواز الوقف عليهما لأن المعنى المحتمل فيهما سائغ شرعا، قال به بعض المفسرين,

المقدمة الثانية:

اختلف المفسرون من حيث استغراق المفهوم الكلي للتشابه والمحكم لجميع أفراده إلى ثلاثة أقسام أيضا:

  1. ذهب بعضهم إلى أن التشابه كليٌ ممتنعٌ عن غير الله تعالى.
  2. ذهب بعضهم إلى أن التشابه كليٌ ممتنعٌ عن غير الله والراسخين في العلم.
  3. ذهب بعضُهم إلى أن كلَّ التشابهِ لا بعضه ممتنعٌ عن غير الله تعالى، فللراسخ في العلم أن يعلم بعض المتشابه لا كله.

المقدمة الثالثة:

اختلف المفسرون في جواز ما تعبدنا الله بلفظه دون معرفة معناه في الكتاب العزيز إلى ثلاثة أقوال:

  1. ذهب بعضُهم إلى عدم جواز أن يكون في القرآن ما تعبدنا الله بلفظه دون معناه.
  2. ذهب بعضهم إلى جواز أن يكون في القرآن ما تعبدنا الله بلفظه دون معناه.
  3. ذهب بعضهم إلى جواز أن يكون التعبد باللفظ دون المعنى على البعض لا كل الأمة.

المقدمة الرابعة:

ذهب بعضهم إلى أن المحكم هو القطعي الذي لا يحتاج في مدلوله إلى غيره، والمتشابه هو الظني الذي يحتاج في مدلوله إلى غيره، فكان المحكم هو النص الأصولي والظاهر، والمتشابه ما دون ذلك في أنواع الدلالة.

وقال غيرهم المحكم هو المعمول به الواضح في دلالته، والمتشابه ما دون ذلك، وقد يمثل بعض السلف ويستعيضون بالتمثيل عن الحد على طريقة السلف غالبا.

المقدمة الخامسة:

اختلف المفسرون في تخريج أقوالهم وبيان علية ما ذهبوا إليه، فمن قال:

  1. إن القرآن كله محكمٌ استدل أن الله أمرنا أن نتدبره، والتدبر يكون للمعنى لا اللفظ، واستدل أن معنى الآية نظير قوله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)، ومنهم من قدّر محذوفا وهو (على وجه الكمال) بعد (إلا الله)، ولنا أن نرد هذين القولين بأن الأول مقرّ على أن وجوب التدبر لازم للعالم والعامي، وتدبر العالم ليس كتدبر العامي، فالعامي يتعبد الله بتدبره للقرآن تدبر المؤمن به الصادر منه المعظم لشأنه، والعالم يتدبره تدبر المعاني وربط السابق باللاحق وجمع النظائر واستخراج دقائقه، والثاني مردود بأنه لزوم ما لا يلزم فقد يكون الاستثناء من جملة المحكم الذي شاءه الله عز وجل أن يعلمه عباده.
  2. ومن استدل على أن المتشابه هو ما استأثر الله بعلمه دون غيره، فقد استدل على أن هذا مذهب جمهور السلف واللغويين، وهو الظاهر من الآية، والخروج عن هذا المعنى تكلف، وقد يستدل بكلام ابن عباس رضي الله عنهما في الباب، وما ورد من قراءة ابن عباس وابن أم عبد وغيرهما، وهو مذهب قوي لم أجد وسيلة لرده، ولنا أن نخرّجه تخريجا عقليا صحيحا فنقول: إن علة التشابه هو ابتلاء العقول النيرة النهمة الشغوفة بالعلم بما تقرأه ولا تفهمه حتى تسلم بأن فوق كل ذي علم عليم، وأن قوةَ القوةِ العاقلة مهما بلغ شأنها فلها حدود لا تستطيع بحال من الأحوال أن تتجاوزها، فلا مجال لهم إلا أن يقول آمنا به كل من عند ربنا، وهذه صفة الراسخ في العلم الذي يعرف متى يقدم ومتى يحجم، لأن النظر لا يجوز فيما تعدد مجاهيل مقدماته، أو غابت مقدماته بالأس كما هو متعارف عليه بديهيا في علم الرياضيات.
  3. من ذهب إلى أن الله عليمٌ بحقائق الأمور وللراسخ أن يعلم ما هو دون ذلك، لنا أن نرد عليه فنقول: هذه كلية تنقض بأن الله استأثر ببعض الأشياء ولم يطلع عليها غيره منها علم الساعة ووقت خروج الدجال ونزول عيسى ووو مما ذكر في كتب التفسير.

المقدمة السادسة:

من بديهيات علم المنطق أن القسمة الصحيحة يلزم منها أن تكون جامعة مستغرقة لأجزاء المقسم وأن تكون مانعة لتداخل الأقسام فيما بينها.

وتكون القسمة الصحيحة بدخول وصف مقيّد على مطلق أو كمطلق يكون ذلك الوصف هو الاعتبار المقسم لهذا المطلق أو كالمطلق، فإن كان الاعتبار واحدا كانت القسمة ثنائية، وإن كان تمت اعتباران كانت القسمة رباعية، وهكذا… .

ولو نشاء أن نسقط هذا الكلي على المحكم والمتشابه نقول:

جنس المحكم والمتشابه هو خطاب الله تعالى في كتابه الكريم لقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، ومنه وصفا الإحكام والتشابه هما وصفان عارضان على آي الكتاب، ولا دليل في الآية على أنّ الوصفين مستغرقان لكل آي الكتاب، لقوله: (منه آيات)، واللفظ لا يمنع استغراقهما، فكان النص محتملا.

وعلى اعتبار استغراق الوصفين لآي الكتاب هل هما اعتباران فتكون قسمة رباعية أو هما اعتبار واحد فتكون القسمة ثنائية، والظاهر أنهما اعتبار واحد لأن وصف الإحكام نقيض التشابه، فيكون وصف الآية بالإحكام هو عين وصفها بعدم التشابه، ووصفها بالتشابه هو عين وصفها بعدم الإحكام.

فإن تغير مفهوم الإحكام والتشابه تغيرا لا يكون فيه الاختلاف بينهما اختلاف تناقض تكون الآية محكمة باعتبار متشابهة باعتبار آخر.

فإن لم يكن وصف الإحكام والتشابه مستغرقين لكل آي القرآن فعدم الوصف بهما وصف بعدمهما، فيكون الإحكام والتشابه وصفين من باب الملكة في بعض الآيات، والعدم في البعض الآخر، ويكون الناتج ثلاثيا لأن القسمة ثنائية باعتبار الملكة والعدم ثم قسمة ثنائية في الملكة بين المتشابه والمحكم للزوم أحدهما في المحل القابل، فقد ورد أن المحل القابل للصفة إما أن يقبلها أو يقبل النقيض.

أقول: فعلى اعتبار أن الإحكام والتشابه ومستغرق لكل آي القرآن، والإحكام والتشابه وصفان متضادان:

  1. وعرفنا أن المتشابه هو ما استأثر الله بعلمه كان المحكم هو ما لم يستأثر الله بعلمه.
  2. وعرفنا أن المحكم هو ما لا تردد في مدلوله (القطعي) كان المتشابه هو ما وقع التردد في مدلوله (الظني).
  3. وعرفنا المحكم هو المعمول به كان المتشابه كل ما لم ينبني عليه عمل.

وإن قلنا أن الإحكام والتشابه لم يستغرق كل آي الكتاب وأن من القرآن ما لا يوصف بالإحكام والتشابه.

  1. واعتبرنا أن المتشابه هو الذي استأثر الله بعلمه اضطرب تعريف المحكم لأنه لا ينضبط لأنه سيلتبس مع اللا محكم واللا متشابه.
  2. واعتبرنا أن المحكم هو القطعي الذي لا تردد في مدلوله لم يكن مانعا واضطرب تعريف التشابه أيضا لأن اللا محكم و اللا متشابه يعرض عليه القطع والظن.
  3. واعتبرنا أن المحكم هو المعمول به اضطرب تعريف المتشابه لأن اللا محكم واللا متشابه مما لا يعمل به فيلتبس مع المتشابه.
  4. واعتبرنا المحكم هو القصص التي لم تكرر أو كررت بلفظها، كان المتشابه هو القصص التي كررت بغير لفظها، وبه آي الكتاب التي جاءت بالقصص هي الآيات التي تكون محلا قابلا للوصف بالإحكام والتشابه.
  5. واعتبرنا المحكم هو الناسخ كان المتشابه هو المنسوخ، وبه آي الكتاب التي جاءت بالأحكام التكليفية هي الآيات التي محلا قابلا للوصف بالإحكام والتشابه.

 

وبهذا سنخرّج كلام الأئمة وندقق به قولهم.

أقوال المفسرين وتخريجها:

  • جاء في جامع البيان للطبري في تفسير الآية: (…وأما المحكمات: فإنهن اللواتي قد أُحكمنَ بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك[1]. ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن هن أم الكتاب، يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم. وإنما سماهن أم الكتاب، لأنهن معظم الكتاب[2]، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه[3]، وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامع معظم الشيء أما له، فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر أمهم، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها. وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته…).
  • جاء في جامع البيان للطبري في تفسير الآية: (…وأما قوله:(متشابهات) فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى[4]، كما قال جل ثناؤه: (وأتوا به متشابها) يعني في المنظر: مختلفا في المطعم، وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: (إن البقر تشابه علينا) يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه.

فتأويل الكلام إذا: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن، منه آيات محكمات بالبيان، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين، وإليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الاسلام، وآيات أخر هن متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعاني…).

  • جاء في جامع البيان للطبري في تفسير الآية: (وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (منه آيات محكمات هم أم الكتاب وأخر متشابهات) وما المحكم من آي الكتاب، وما المتشابه منه؟.

فقال بعضهم: ” المحكمات من آي القرآن: المعمول بهن، وهن الناسخات، أو المثبتات الأحكام، والمتشابهات من آية: المتروك العمل بهن، المنسوخات”[5].

ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: (منه آيات محكمات) قال: هي الثلاث الآيات التي ههنا: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) إلى ثلاث آيات، والتي في بني إسرائيل: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) إلى آخر الآيات. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: “(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب) المحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به[6] قال: (وأخر متشابهات) والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به”.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: “(هو الذي أنزل عليك الكتاب) إلى (وأخر متشابهات)فالمحكمات التي هي أم الكتاب: الناسخ الذي يدان به ويعمل به، والمتشابهات: هن المنسوخات التي لا يدان بهن.

حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: “(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن

أم الكتاب) إلى قوله: (كل من عند ربنا) أما الآيات المحكمات:

فهن الناسخات التي يعمل بهن، وأما المتشابهات: فهن المنسوخات”. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ” (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هم أم الكتاب) والمحكمات: الناسخ الذي يعمل به ما أحل الله فيه حلاله وحرم فيه حرامه، وأما المتشابهات: فالمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به”. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (آيات محكمات) قال: “المحكم ما يعمل به”. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: “(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) قال: المحكمات: الناسخ الذي يعمل به، والمتشابهات: المنسوخ الذي لا يعمل به، ويؤمن به”.

حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (آيات محكمات هن أم الكتاب) قال: “الناسخات”، (وأخر متشابهات)، قال: “ما نسخ وترك

يتلى”.

حدثني ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك

بن مزاحم، قال: ” المحكم ما لم ينسخ، وما تشابه منه: ما نسخ”. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: (آيات محكمات هن أم الكتاب)، قال: “الناسخ، (وأخر متشابهات)، قال: المنسوخ”.

حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يحدث، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: “(منه آيات محكمات) يعني: الناسخ الذي يعمل به،(وأخر متشابهات) يعني المنسوخ، يؤمن به ولا يعمل به”.

حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سلمة، عن الضحاك: (منه آيات محكمات)، قال: “ما لم ينسخ، (وأخر متشابهات) قال: ما قد نسخ”.

وقال آخرون: ” المحكمات من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضا في المعاني وإن اختلفت ألفاظه”[7].

ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: “(منه آيات محكمات) ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك، فهو متشابه يصدق بعضه بعضا، وهو مثل قوله: (وما يضل به إلا الفاسقين)، ومثل قوله: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)، ومثل قوله: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم)”. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. مثله.

وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: “ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منها: ما احتمل من التأويل أوجها”.

ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن جعفر بن الزبير: “(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت

عليه. وأخر متشابهة في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق”.

وقال آخرون: معنى المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن وقصص

الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته.

والمتشابه: هو ما اشتهبت الالفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، فقصة باتفاق الالفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الالفاظ واتفاق المعاني[8].

ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:

قال ابن زيد وقرأ: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) قال: وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها، وحديث نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال: (تلك من أنباء الغيب) ثم ذكر: (وإلى عاد) فقرأ حتى بلغ: * (واستغفروا ربكم)ثم مضى ثم ذكر صالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا، وفرغ من ذلك. وهذا يقين، ذلك يقين أحكمت آياته ثم فصلت. قال: والمتشابه ذكر موسى في أمكنة كثيرة، وهو متشابه، وهو كله معنى واحد ومتشابه: (اسلك فيها)،(احمل فيها) (اسلك يدك)،(أدخل يدك)،(حية تسعى)،(ثعبان مبين). قال: ثم ذكر هودا في عشر آيات منها، وصالحا في ثماني آيات منها وإبراهيم في ثماني آيات أخرى، ولوطا في ثماني آيات منها، وشعيبا في ثلاث عشرة آية، وموسى في أربع آيات، كل هذا يقضي بين الانبياء وبين قومهم في هذه السورة، فانتهى ذلك إلى مائة آية من سورة هود، ثم قال: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد).

وقال في المتشابه من القرآن: من يرد الله به البلاء والضلالة، يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا، وما شأن هذا لا يكون هكذا؟.

وقال آخرون: بل المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه

سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه[9]، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحد. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب المتشابه الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن من نحو الم، والمص، والمر، والر، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمل. وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الاسلام وأهله، ويعلموا نهاية أجل محمد وأمته، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم

أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه

ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله. وهذا قول ذكر عن

جابر بن عبد الله بن رباب أن هذه الآية نزلت فيه، وقد ذكرنا

الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته في تأويل ذلك في

تفسير قوله: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه).

وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية، وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنزله عليه بيانا له ولأمته وهدى للعالمين، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذا كان ذلك كذلك، فكل ما فيه لخلقه إليه الحاجة، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى، وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة، وذلك كقول الله عز وجل: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طلوع الشمس من مغربها. فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته بغير تحديده بعد بالسنين والشهور والايام، فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسول صلى الله عليه وسلم مفسرا.

والذي لا حاجة لهم إلى علمه منه هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا، وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله: الم، والمص، والر، والمر، ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.

فإذا كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم، لأنه لن يخلو

من أن يكون محكما بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغني بسماعه عن بيان مبينه، أو يكون محكما، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة، فالدلالة على المعنى المراد منه إمامن بيان الله تعالى ذكره عنه أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته، ولن يذهب علم ذلك عن علماء الامة لما قد بينا. القول في تأويل قوله تعالى:(هن أم الكتاب).

قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلنا فيه، ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه. وذلك أنهم اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معنى قوله: (هن أم الكتاب) هن اللائي فيهن الفرائض والحدود والاحكام، نحو قيلنا الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية: (محكمات هن أم الكتاب) قال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض والحدود وعماد الدين، وضرب لذلك مثلا فقال: أم القرى مكة، وأم خراسان مرو، وأم المسافرين الذين يجعلون إليه أمرهم، ويعنى بهم في سفرهم، قال: فذاك أمهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (هن أم الكتاب) قال: هن جماع الكتاب. وقال آخرون: بل معني بذلك فواتح السور التي منها يستخرج القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب) قال: أم الكتاب: فواتح السور، منها يستخرج القرآن، (الم ذلك الكتاب) منها استخرجت البقرة، و (الم الله لا إله إلا هو) منها استخرجت آل عمران…).

  • جاء في أحكام القرآن للجصاص (2/283): (…ثم يكون قوله تعالى:(وما يعلم تأويله إلا الله) معناه تأويل جميع المتشابه حتى لا يستوعب غيره علمها فنفى إحاطة علمنا بجميع معاني المتشابهات من الآيات ولم ينف بذلك أن نعلم نحن بعضها بإقامته لنا الدلالة عليه كما قال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) لأن في فحوى الآية ما قد دل على أننا نعلم بعض المتشابه برده إلى المحكم وحمله على معناه على ما بيّنا من ذلك ويستحيل أن تدل الآية على وجوب رده إلى المحكم وتدل أيضا على أنا لا نصل إلى علمه ومعرفته فإذا ينبغي أن يكون قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) غير ناف لوقوع العلم ببعض المتشابه…).

قال أبو مسلم: المتشابهُ الذي يطوله الراسخُ في العلم ويفسرُه يستحيل من التشابه إلى الإحكام ، ولا أظن أن تمت خلاف في الباب، وبه كلام الجصاص في غير محل النزاع.

  • جاء في التحرير والتنوير (3/162): (…وليس طلبُ تأويله في ذاته بمذمّة ، بدليل قوله : (وما يعلم تأويله إلاّ اللَّهُ والراسخون في العلم) كما سنبيِّنه وإنّما محلّ الذم أنّهم يطلبون تأويلاً ليسوا أهلاً له فيؤوّلونه بما يُوافق أهواءهم، وهذا ديدن الملاحِدة وأهلِ الأهواء الذين يتعمّدون حمل الناس على متابعتهم تكثيراً لسوادهم…).

قال أبو مسلم: ذكر طاهر بن عاشور وصف أهل البدع والأهواء من معارضة اليقينيات بالظنيات لردها والتلبيس على العامة بها، وهذا وإن كان لا إشكال فيه إلا أنه لا يصلح ككلي في بيان ماهية التشابه لعروض ما ذكره الله تعالى في القرآن ولا يعلمه غيره كعلم الساعة.

 

[1]  الظاهر أن هذا هو مذهب الإمام الطبري في المحكم وهو ما أحكم بالبيان والتفصيل، أي لا تردد فيه ولا اضطراب وكان واضحا في مدلوله.

[2]  فقد أطلق لفظة الأم هنا على الأصالة العرفية.

[3] كفزع الابن إلى الأم حال الاضطراب كذلك يفزع النظر إلى المحكم إذا اضطربت عليه دلالته المتشابه.

[4] الظاهر أن مذهب الإمام الطبري في المتشابه هو (ما اتفق لفظه واختلف معناه)، فأرجع معنى المحكم والمتشابه إلى التعريف اللغوي.

[5]  من قال هذا القول يخرج قوله على أنه استعاض بالتمثيل عن طرد قاعدة كلية في الباب، أو أنه أراد عين الممثل به ويرد عليه أنه يكون من القرآن ما ليس محكما ولا متشابها، فإن أراد ذلك فقوله قابل للقسمة ثلاثية على ما ذكرنا في المقدمة السادسة.

[6] ما استدل به يلزم الاحتمال الأول دون الثاني لأنه لم يقتصر على الناسخ في مفهوم المحكم والمنسوخ في المتشابه بل وسعه إلى ما ذكر من حلاله وفرائضه ووو.

[7] هذه قسمة مضطربة لأنه قسمة غير جامعة للمقسم لأنه جعل المحكم ما لا اضطراب في دلالته، والمتشابه ما اشتبه دلالته اللفظية، ويلزمه ما اضطرب ولم يشتبه.

[8]  قسمة صحيحة إن اعتبر المحكم ما أحكم من قصص السالفين بأن لا تكرار فيها أو كررت ولم تتغير ألفاظها، والمتشابه ما تكرر وتغير اللفظ فيها، وجعل القصص هو النص القابل للوصفين دون غيره فهي فيه عدمية، ويرد عليه إلزام من تخصص في القصص والتأريخ المذكور في القرآن من الذين في قلوبهم زيغ.

[9] وهذه قسمة صحيحة لأنها جامعة للمنقول جميعا فما كان متأتيا لمن سواه سبحانه محكم والمتشابه هو ما استأثر به سبحانه، قد يحاول بعض من خاض في المتشابه التشغيب فيقول وهل لله أن يكلم المكلف بما لا يفهمه، وهذه كلية سالبة تدل على امتناع الفعل عن الله، وترد بقولنا: إن الكلية السالبة ترد بجزئية موجبة وقد تعددت المسائل التي خاطبنا بها ربنا ولا يعلمها سواه فانتقض قولهم جملة وتفصيلا، وهذا المذهب في تفسير الآية هو قول سائر المفسرين والأصوليين والعقديين.

Comments are closed.