سلسلة قول الأثبات في مسائل الصفات 28

يلحق مع مباحث التأصيل العقلي (تعريف التشبيه)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد:

فأنا أضيف بعض المباحث التأصيلية والتفريعية للحاجة إليها، وذلك لأن الباحثين يشككون فيما نعتقده أنه من المسلّمات، فندفع الظن بالقطع الذي لا يبقي ويذر للتردد سبيلا، وأعتذر على الترتيب الحسن للمباحث، وأعدكم أنني سأحسن ترتيبها لاحقا، وبارك الله في الجميع.

نقاط البحث:

– هل التشبيه تعلق بالوجود الخارجي فقط، أو يدخل التشبيه في الكليات؟؟؟.

– إذا سلمنا أن التشبيه يدخل في الكليات، لما التفريق بين الكلي الذي أصله حدث، والكلي الذي أصله ذات ؟؟؟.

التشبيه في عرف المعجميين (لغة): 

– قال ابن منظور في اللسان في مادة (ش،ب،هـ):

(الشِّبْهُ والشَّبَهُ والشَّبِيهُ: المِثْلُ، والجمع أَشْباهٌ، وأَشْبَه الشيءُ الشيءَ: ماثله.

وفي المثل: مَنْ أَشْبَه أَباه فما ظَلَم).

– قال الجوهري في الصحاح في مادة (ش،ب،هـ):

( شِبْهٌ وَشَبَهٌ لغتان بمعنىً. يقال: هذا شِبْهُهُ، أي شَبيهَهُ، وبينهما شِبَهٌ بالتحريك، والجمع مَشابَهُ على غير قياس، كما قالوا مَحاسِنُ ومذاكيرُ والشُبْهَةُ: الالتباسُ، والمُشْتَبِهات من الأمور: المشْكِلاتُ، والمُتشابِهاتُ: المُتَماثِلاتُ، وتَشَبَّهَ فلان بكذا، والتَشْبيهُ: التمثيلُ)

– قال الفيروزبادي في القاموس في مادة (ش،ب،هـ):

(الشِّبْهُ، بالكسر والتَّحْريكِ وكأميرٍ: المِثْلُ، ج: أشْباهٌ، وشابَهَهُ وأشْبَهَهُ: ماثَلَهُ، وأُمَّهُ: عَجَزَ، وضَعُفَ، وتَشابَهَا واشْتَبَها: أَشْبَهَ كُلٌّ منهما الآخَرَ حت الْتَبَسا، وشَبَّهَهُ إيَّاهُ، وبه تَشْبيهاً: مَثَّلَهُ، وأُمورٌ مُشْتَبِهَةٌ ومُشَبَّهَةٌ، كَمُعَظَّمَةٍ: مُشْكِلَةٌ، والشُّبْهَةُ، بالضم: الالْتِباس، والمِثْلُ، وشُبِّهَ عليه الأَمْرُ تَشْبيهاً: لُبِّسَ عليه).

أقول: (الشبه) لغة (المثل) باتفاق المعجميين، ولا نعلم في المسألة خلاف، وحتى نقطع كل خلاف ونجلي المسألة تجلية تدفع كل شبهة في الباب سنبحث عن مفهوم (المثل) عندهم رحمهم الله.

– قال ابن منظور في اللسان في مادة (م،ث،ل):

(مِثل: كلمةُ تَسْوِيَةٍ. يقال: هذا مِثْله ومَثَله كما يقال شِبْهه وشَبَهُه بمعنى؛ قال ابن بري: الفرق بين المُماثَلة والمُساواة أَن المُساواة تكون بين المختلِفين في الجِنْس والمتَّفقين، لأَن التَّساوِي هو التكافُؤُ في المِقْدار لا يزيد ولا ينقُص، وأَما المُماثَلة فلا تكون إِلا في المتفقين، تقول: نحوُه كنحوِه وفقهُه كفقهِه ولونُه كلونِه وطعمُه كطعمِه، فإِذا قيل: هو مِثْلة على الإِطلاق فمعناه أَنه يسدُّ مسدَّه، وإِذا قيل: هو مِثْلُه في كذا فهو مُساوٍ له في جهةٍ دون جهةٍ…).

– قال الفيروزبادي في القاموس في مادة (م،ث،ل):

(المِثْلُ، بالكسرِ والتحرِيك وكأَميرٍ: الشِّبْهُ، ج: أمثالٌ وقولُهُم: “مُسْتَرادٌ لِمِثْلِهِ”، أي: مِثلُهُ يُطْلَبُ ويُشَحُّ عليه، والمَثَلُ، محرَّكةً: الحجَّةُ والحَديثُ، وقد مَثَّلَ به تَمْثيلاً وامْتَثَلَه وتَمَثَّلَهُ و به، والصِّفَةُ، ومنه: {مَثَلُ الجَنَّةِ التي}، …).

– قال ابن فارس في المعجم في مادة (م،ث،ل):

(الميم والثاء واللام أصلٌ صحيح يدلُّ على مناظرَة الشّيءِ للشيء، وهذا مِثْل هذا، أي نَظِيرُه، والمِثْل والمِثال في معنىً واحد، وربَّما قالوا مَثِيل كشبيه. تقول العرب: أمثَلَ السُّلطان فلاناً: قَتَلَه قَوَداً، والمعنى أنَّه فعل به مِثلَ ما كان فَعَلَه، والمَثَل المِثْل أيضاً، كشَبَه وشِبْه،…).

– قال الجوهري في الصحاح في مادة (م،ث،ل):

(مِثْلَ: كلمة تسوية. يقال: هذا مِثلُهُ ومَثَلهُ كما يقال شِبْهُهُ وشَبَهُهُ بمعنًى، والعرب تقول: هو مُثَيْلُ هذا، وهم أُمَيْثالُهُمْ؛ يريدون أنَّ المُشَبَّه به حقيرٌ كما أنَّ هذا حَقير، والمثَلُ ما يُضرب به من الأمثال، ومَثَلُ الشيءِ أيضاً: صفَتُه، والمِثالُ: الفِراشُ؛ والجمع مُثُل،…).

أقول: يدور مفهوم (مثل) عند المعجميين على (التسوية) كما ذكره الجوهري وابن منظور، وعلى (النظير) كما ذكره ابن فارس، وعلى (الشبه) كما ذكره الفيروزبادي وأشار إليه الجوهري، ونقل ابن منظور عن ابن بري فرقا دقيقا بين المماثلة و المساواة ، حيث جعل (المماثلة) بين المتفقين جنسا، ولا شرط اتفاق الجنسية في (المساواة)، فكان بينهما عموم وخصوص كلي، وكانت كل مماثلة مساواة وليس كل مساواة مماثلة.

أقول: لا بد من تحليل هذه المادة التي بين أيدينا حتى نضبط المسائل التي تعلقت بالمبحث الضبط الصحيح، وكالعادة لكل تفصيل مقدمات حتى يتضح البرهان، لهذا سنقدم بمقدمات، وهي كالآتي:

– أشرنا في الحلقة الأولى إلى قسمة الاسم إلى أربعة اقسام، وقد أوردت كلام ابن مالك، ثم دللتها وخرجتها عقلا بما لم أسبق إليه، قال ابن مالك في التسهيل وفي سبك المنظوم وفك المختوم: (وهو لعين أو معنى اسما أو وصفا).

– أشرنا في حلقة سابقة أن الوجود إما كلي ذهني متعدد بالفعل أو القوة خارجا، أو وجود خارجي له وجود ذهني.

– أشرنا في حلقة سابقة أن النسبة بين الكلمات باعتبار التوافق على أربعة أحوال:

أ‌- عدم التوافق في اللفظ والمعنى، وهذا النوع يسمى بالاختصاص.

ب‌- التوافق في اللفظ دون المعنى، وهذا النوع يسمى بالاشتراك.

ت‌- التوافق في المعنى دون اللفظ، وهذا النوع يسمى بالترادف.

ث‌- التوافق في اللفظ والمعنى، وهذا النوع لو كان خارجا للزم أن يكون لفظا واحدا، فلا أن يكون ذهنيا، والأشياء الذهنية المطلقة إما أوصاف أو أعيان، فإن كان وصفا يلزم منه التفاوت ولو بالقوة، أو عينا لا تفاوت فيه بالفعل أو بالقوة، والأول يسمى بالمشكك، والثاني يسمى بالمتواطئ.

أقول: ولتحليل هذه المقدمات لا بد من جمعها مع بعض ثم التفصيل:

الاسماء إما أن تدل على الجوهر أو كجوهر وهو وصف مطلق أو عارض على الجوهر أو كجوهر.

والجوهر إما أن يعرض عليه العارض (الوصف)  أو لا، ولا تعرض عليه الذات، وقد فصلت المسألة في باب سابق، فإن:

أ‌- عرض عليه كان وجوده خارجيا وذهنيا، والوجود الخارجي له قد يكون بالفعل أو بالقوة ما لم تعرض عليه موانع الوجود.

ب‌- لم يعرض عليه سيكون وجوده ذهنيا لا خارجيا، وهو المشترك المطلق الكلي في الأعيان.

والعرض إما أن يكون مطلقا أو لا، فإن:

– كان مطلقا، فوجوده ذهني لا خارجيا، وهو في الذهن قائم بنفسه، يعامل معاملة الجوهر فيصح الإخبار عنه ولا يجوز الإخبار به، وهو المشترك المطلق من الأحداث، ولا وجود له في الخارج إلا مشخصا.

– لم يكن مطلقا هو نوعان بحسب ما يعرضه هو على غيره، أو يعرض عليه غيره، فإن:

أ‌- فإن عرض على غيره، فهو نوعان أيضا بحسب ماهية ما يعرض عليه، فإن:

1- كان الذي عرض عليه حدثا لا ذاتا، فهو ممتنع خارجا لا ذهنا، لأن نسبة الحدث للحدث ممتنعة إلا بتأويل، فلو عرض عليه الحدث لكان نوعا أو صنفا، ولكن عروضه هو على غيره يمنع عنه التأويل بالذاتية ويوجب له الحدثية، وقد فصلنا هذا المبحث في علم التصورات، وقلنا بوجوده ذهنا لأن الذهن يتصور الممتنعات.

2- كان الذي عرض عليه ذاتا لا حدثا، كان وجوده خارجي له صورة في الذهن لزوما، أي وجوده خارجي واقعا، أو بالقوة ما لم تعرض عليه موانع الوجود، ووجوده أيضا ذهني، فيكون تشخيص لذلك المعنى المطلق، ولا يكون في لسان العرب إلا من باب الإضافات، فيقال: رحمة زيد، وعلم عمرو.

ب‌- فإن عرض عليه غيره فلا يخرج أن يكون هذا العارض حدثا أو ذاتا، فإن كان العارض:

1- حدثا سيكون صنفا أو نوعا، فيقال: رحمة مطلقة، ورحمة مقيدة، وسيكون وجوده ذهنيا لا خارجيا، لأنه وإن خصص لا يخرج عن كونه كليا.

2- ذاتا سيكون ممتنعا لأن الحدث هو الذي ينسب إلى الذات لا العكس، فيقال رحمة زيد، ويرحم زيد، ولا يقال زيد رحمة ولا زيد يرحم من باب الإخبار عن الرحمة بزيد بلا تأويل.

أقول: اسمع يا رحمك الله أن التشبيه يكون بين المتماثلين المتساويين، وقد خصها ابن بري في الجنس الواحد وأطلقها غيره، ولا يؤثر ذلك على مبحثنا في كل الأحوال، لأننا سنفسر المسألة تفسيرا بطريقة جديدة، فالتساوي لا يخلو أن يكون في:

– في اللفظ والمعنى، والمعنى يكون كليا أو عينيا، فإن كان:

1- كليا، فهو تساوٍ في الجنس أو النوع أو الصنف، وهو نوعان بحسب ماهية هذا الكلي:

أ‌- فإن كان الكلي حدثا قابلا للتفاوت فهو مشكك.

ب‌- فإن كان حدثا غير قابل للتفاوت فهو المتواطئ.

ت‌- وإن كان الكلي ذاتا، سيكون من باب التواطئ ان لم يقبل التفاوت.

ث‌- وإن كان الكلي ذاتا سيكون من باب المشكك إن لم يقبل التفاوت.

2- فهو تساوٍ في الخارج، أي العينيات.

– في اللفظ دون المعنى، وهو الاشتراك اللفظي، وهو من باب العلمية، ولا تأثير إن كان لفظا كليا أو عينيا إذا سلّم أن لا تساوي في المعاني ولو بقدر مشترك مطلق، ولا تأثير له خارجا لأن العبرة بالحقائق لا بالمسميات، وإن كان قد ورد النهي عن التسمية بما يختص باللاهوتيات كوصف الرحمن واسم الله، أو اطلاق الاوصاف على وجه الكمال اللاهوتي على الناسوتي، وسيأتي بيان ذلك تفصيلا في مقال يخصه.

– في المعنى دون اللفظ، وهو المترادف، كالشعير والقمح والبر، ولا يخرج عن أن يكون المعنى المتساوي:

أ‌- كليا، وهو في هذه الحالة إما أن يكون:

1- الكلي ذاتيا فلا يقبل التفاوت.

2- الكلي حدثا فيقبل التفاوت.

ب‌- عينيا، ولا يكون إلا ذاتيا.

– ألا تساوٍ في اللفظ أو المعنى، وهو ما يسمى بالاختصاص.

أقول: الآن نتكلم عن الممتنع والواجب والجائز، حتى نتمم المبحث كاملا، ولا نترك مجالا للتردد.

خلاصة هذه المقدمة:

مواقع الاتفاق مع العلامة ابن تيمية رحمه الله:

– اتفاق اللفظ والمعنى في العينيات ممتنع عن الله تعالى، وإلا كان تشبيها صريحا على طريقة هشام بن الحكم وأتباعه الذين لم يقدروا الله حق قدره.

– اتفاق اللفظ والمعنى في الكليات من باب المتواطئ ممتنع أيضا، وإلا كان تشبيها صريحا.

– اتفاق في المعنى دون اللفظ في الكليات من باب المتواطئ ممتنع أيضا، وإلا كان تشبيها صريحا.

– اتفاق اللفظ دون المعنى لا إشكال فيه واقعا سواء كان في الكليات أو الجزئيات، ولأن التسوية لفظية فقط، والعبرة بالحقائق لا المسميات، وحتى لا أترك مجالا للرد، قد ورد النهي عن مثل هذا النوع من التسوية.

– عدم التوافق في اللفظ والمعنى مطلقا في الكليات والعينيات، وهذا لا إشكال فيه لأن الأصل المفارقة بين عالمي اللاهوت والناسوت، وما جاء على اصله لا يبحث فيه.

– اتفاق المعنى دون اللفظ في العينيات ممتنع، وإلا رجعنا إلى النقطة الأولى.

 مواقع الاختلاف مع العلامة ابن تيمية رحمه:

– التوافق في اللفظ والمعنى في الكلي المتفاوت إذا كان الكلي ذاتا سواء كان من باب المشكك أو المتواطئ.

– التوافق في المعنى دون اللفظ في الكلي المتفاوت إذا كان الكلي ذاتا من باب المشكك أو المتواطئ.

أقول: قد قدمنا سابقا أن الوجود وجودان، وجود ذهني، ووجود خارجي، وقد قلنا: إن الوجود الذهني كلي أو جزئي، لأن هذا النوع من الوجود تصوري ذهني، والذهن له أن يتصور الكلي والجزئي، ولا وجود في الخارج إلا الوجود الجزئي، أي لا كليات في الخارج سواء كانت مصاديق هذه الكليات ذواتا أو حدثا.

كما قلنا: قد قطع العقل والنقل على وصف العالم اللاهوتي بالكمال، والنقص فيه صفة عدمية، وما ورد النص بنفيها إلا لبيان عدميتها، وقد يتجلى الكمال للعقل البشري أو لا يتجلى، لهذا كان ما أخبر به ربنا عن نفسه من الكمال هو ما يمكن للعقل البشري أن يدركها، وما لا يستطيع إدراكه حجبه ربنا عنا حتى لا يكون الخطاب بما لا يدرك، وهذا كله مما يجب بالعقل، وما وجب عقلا وجب خارجا، لهذا أثبتنا لله تعالى كل ما أثبته لنفسه أو أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم من الكمال، وننزه الله عن النقص أو فيه شبهة نقص، فوقع الوفاق بين أهل السنة قاطبة على القول بالمشترك المطلق الكلي إن كان أصله حدثا دالا على الكمال، نثبتها لله تعالى على ما يليق به سبحانه.

أقول: ولكون المفارقة بين عالمي اللاهوت والناسوت لازمة تأصيلا وتفريعا وقع الاتفاق عند أهل السنة على عدم القول بالكلي الذي تكون مصاديقه الذوات والسكوت فيها وعدم الخوض فيها لورود التوقيف بها، ذلك لأن:

– العالم اللاهوتي لا يحكم بمعلم الزمان والمكان اتفاقا بل اجماعا عند أهل السنة فلا يحويه مكان ولا يمر عليه.

– العلية على أدوات الفعل للفعل صفة الناسوتي فنفى أهل السنة أن تكون تمت أدوات فعل في عالم اللاهوت.

– المباينة بين عالم اللاهوت والناسوت في الذوات مباينة لا من حيث الخارج فقط بل من حيث الجنس أيضا.

أقول: ولو نشاء تفسيرها تفسيرا منطقيا وتطبيق المعارضة في المدلولات نورد:

– القطعي العقلي أوجب الكمال لله تعالى في الصفات (الكلي الذي يكون مصداقه حدثا دالا على الكمال)، والقطعي النقلي جاء مصدقا له في كل ما ورد في الكتاب والسنة.

– الجائز العقلي (تسليم الجدل) أجاز الكلي الذي يكون مصاديقه ذواتا، وجاء الكلي النقلي القطعي على نفي المماثلة، فقدم الكلي النقلي على الكلي العقلي لوجوب تقديم القطعي على الظني.

– الكلي العقلي القطعي أوجب صرف النقص أو ما فيه شبهة عن الله تعالى، وجاء الظن النقلي بإثبات بعضها، فقدم القطعي على الظني مطلقا.

لهذا حكم عموم الأئمة من المذاهب الأربعة على كفر من قال بالجارحة لله تعالى أو قال بالتجسيم ولو على وجه كلي، وقال بعضهم بفسقه وعصيانه إن لم يلزم فإن ألزم وقال بها كفر لرده القطعي الملزم، وسيأتي الجمع أقوال الأئمة في حلقة تخصها.

Comments are closed.