سلسلة الدرة اللامعة في تجلية الأصول الجامعة المانعة 4

ملحق بتعريف العلم

فإن بانت ماهيات أقسام العلم – عندك أخي الفاضل- على وجه كلي، كان إسقاط هذه الماهيات بحسب الوسائل التي نحصلها بها موجبا للتفريع الحسن.

وقبل أن نفصل في أسباب تحصيل هذه العلوم نؤكد أن صفة التحصيل عدمية في العلم الفطري كما بيّنا ذلك سابقا، فاقتصرت الدراسة على سبل تحصيل العلم الضروري والنظري.

وأحبذ في هذا المقام أن أخوض في آلة تحصيل العلوم عموما لأن بفهمها تتجلى الأمور أكثر:

اعلم -رحم الله- أن الله عز وجل قد خصّ الإنسان بما يميزه عن العجماوات في مسمى الحيوان فجعل فيه حاسة يعقل بها ما لا تعقل، ويردك بها ما لا تدرك.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهمٌّ طالما حيّر ذوي العقول النيرة، وهو: هل العجماوات تدرك أو لا تدرك؟ ، فإن نعم فما وجه ميزةِ  الإنسان عن العجماوات في الحيوان؟[1].

وللجواب لابد أن ننطلق من المسائل التي لا خلاف فيها ونحصرها لنفهم المسائل الخلافية فهما صحيحا، فأما الذي لا خلاف فيه فـــــ:

  • لا خلاف في حصول العلم الفطري للعجماوات كما يحصل للإنسان، لعدم تعلق هذا النوع من العلوم بالعقل، فالفطرة ما جبلت عليه الأبدان والعقول والأرواح، فكل ذي روح  أو بدن أو عقل فطره ربي  عز وجل على فطرة تمكن المفطور على حسن استعمال بدنه أو عقله أو روحه.
  • لا خلاف في حصول العلم الحسي من العلم الضروري للعجماوات كما يحصل للإنسان، لتعلق هذا النوع من العلوم بالحواس لا بجنس المحصِّل (بكسر المهملة)، فكل حيوان ذي حاسة من الحواس يكون مدركاً بالقوة أو الفعل، أي صفة الإدراك فيه ليست عدمية.
  • لا خلاف في وقوع العلم النظري للإنسان دون العجماوات، ومنه لا تستطيع العجماوات تحصيل العلم التصوري النظري أو العلم التصديقي النظري[2].

وأما ما وقع فيه الخلاف فـــــــ:

  • وقع الخلاف فيما يتعلق بوقوع الحدس للعجماوات كوقوعه للإنسان.
  • وقع الخلاف في وقوع الوجدانيات للعجماوات كوقوعها للإنسان.
  • وقع الخلاف في إدراك العجماوات للعلم التصديقي الضروري.

فمما لا شك فيه ولا خلاف أن العلم النظري أنحصر في الإنسان دون العجماوات، وأصل النظر عند الإنسان بني عليه أصل التكليف، ولا تكليف لمن فقده، لأن التكليف بالمقدور[3]، ومن لا نظر له لا قدرة له، فلا تكليف عليه، لأنه غير عاقل، وقد أشرت في غير ما موضع أن التكليف بالمحال ممتنع شرعا لقول الله تعالى:  {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وممتنع عقلا لأنه تكليفٌ بما يعلم يقينا أنه لن يؤتى فكان التكليف عبثيا لوضوح الجزاء على الأعيان قطعا، وممتنع عقلا أيضا لأنه مناقضٌ لما وجب عقلا من الكمال اللازم لواجب الوجود[4].[5]

وبما أنّ النظر منقسم إلى ما هو تصوّريٌ ندرك به الذوات المفردة والمركبة[6] ، وما هو تصديقيٌ ندرك به النسب المفردة[7] والمركبة، فــــ:

  • إنّ طريق إلى العلم النظري التصوري هو التعريف[8]، والتعريف لنا فيه مسلكان، مسلك المناطقة، ومسلك اللغويين، فـــ:
  • أما مسلك اللغويين: فهو التعريف بالمرادف أو شرح اللفظ.
  • أما مسلك المناطقة: فهو التعريف بالحدّ أو الرسم.
  • الحدّ: هو التعريف الجامع المانع بذاتياته[9]، وصفته الاطراد والانعكاس[10].
  • الرسم: هو التعريف الجامع المانع لا بالذاتيات فقط، وصفته الاطراد والانعكاس أيضا.

[1]  من الأخطاء الشائعة عند المتشرعة أن جعلوا الإنسان قسيما للحيوان في الموجود، والقول الصحيح أن الموجود ينقسم إلى حيوان وموتان، باعتبار قابلية هذا الموجود لصفة الحياة، وينقسم الحيوان إلى إنسان وعجماوات باعتبار العقل، فكان الانسان نوعا من الحيوان لا قسيما له في الموجود.

[2]  لا نستطيع أن نجزم فنقول: إن صفة إدراك النسب عدمية في العجماوات، فالشك وارد في وجودها ومحدوديتها، وما ورد من الهدهد في الوحي القرآني يدلل على وجودها، وهل هو خاص به، أو مطلق في غيره لا دليل على ذلك، والخوض فيها من غير شيء يرفع الظن ويثبت القطع تخرص.

[3] لم تتعلق القدرة بالبدن دون غيره، فالقدرة قد تكون مالية فتنبني عليها أحكام تكليفية كالزكاة والزواج والحج، أو قدرة عقلية فتنبني عليها بعض الأحكام التكليفية كالإسلام لمن كان له أصل النظر والاجتهاد لمن كانت قوة عاقلة يمكنها النظر وتوافرت أسباب الاجتهاد ولم يمنعه مانع.

[4] وقد بحثت أصل القدرة العقلية، فوجدت أصلها الذي يخاطب به الإنسان تكليفا هو فهم التلازم بين الربوبية والألوهية على وجه العموم، وهذا هو أصل التسليم، أي أن يسلم بعبودية الله عز وجل لأنه هو الرب سبحانه.

[5]  من المسائل التي تبنى على هذه القاعدة لزوم التدرج في التطبيق كما كان التدرج في التنزيل، لأن التكليف بما لا يستطاع فعله تكليف بالمحال، والتكليف بالمحال ممتنع، والذي يحقق قدر التدرج في التطبيق المجتهد الذي يحقق مناط الحكم على الأعيان.

[6]  إضافة تصور إلى تصور تفيد تصورا ولا تكون هذه الإضافة حكما كما يتوهمه بعض المناطقة والأصوليين في تعريفهم للمركب الإضافي (أصول الفقه).

[7]  إدراك النسب في المفردات يكون بالحكم على التصور المفرد هل هو مطابق أو غير مطابق، فيحكم عليه تصديقا أو تكذيبا.

[8]   التعريف: قال فيه ابن منظور رحمه الله في اللسان والجوهري رحمه الله في الصحاح (مادة عرف): الإعلام.

أقول: التعريف هو بيان ماهية المعرف، وهو انتقال إلى مجهول لا ندركه ونحاول أن نحصله من معلوم عندنا، وهو مختلف بحسب تحصيله، فالتعريف يكون بشرح اللفظ والمرادف، أو بالحدّ والرسم، أما الأولان فهما فعل اللغويين والمعجميين في بيان ماهية معاني الألفاظ، والآخران فهما فعل المناطقة في بيان ماهية معاني الألفاظ، ولنفرق بين هذا كله لابد من تمهيد:

اعلم رحمك الله أنّه لبيان ماهية الشيء لابد من الانتقال من معلوم ندركه إلى مجهول لا ندركه نحاول من خلال هذا الانتقال أن يستحيل من مجهول عندنا لا ندركه  إلى معلوم نحصله ، وهذا المعلوم قد يكون تأتيه ميسرا إن كان له مرادف يشاركه ماهيته ويفارقه لفظه، فإن كان المرادف مغلقا مجهولا لا يتم التعريف به بداهة، بل التعريف به عبث لانتفاء شرط الالتجاء إليه، أو لا وجود له وضعا، فإن لم يكن تمت مرادف أو تعذر بيان الماهية به فالالتجاء إلى شرح اللفظ ببيان ماهيته بذكر ما يلزم منه وهو خارج منه دون غيره أو ما يعرض عليه  ويدخل فيه دون غيره، وهذا فعل اللغويين والمعجميين في بيان الماهيات كما ذكرت سابقا.

وأما المناطقة فيدخلون العينيات (الجزئي) تحت كلي ثم يقيدون الكلي بما يميز هذا الجزئي عن غيره فيقع التمييز بطريقة عقلية رياضية:

فللبحث عن ماهية (س) ندخل (س) تحت كلي (ع) يشمله ثم نخلص (س) من الشوائب ببيان ما يميز (س) عن غيرها في ذلك الكلي (ع) بذكر وصف قد يكون من ماهية (س) وهو (ذ) أو يعرض عليها دون غيرها وهو (خ) .

وسيكون الناتج س= ع * ذ ، أو س= ع * خ.

فإن كان الوصف المميز من ماهية (س) ذاتيا أي (ذ) سنسمي طريقة التعريف بالحد، ونسمي (ع) بالذاتي الأعم لأنه كلي و(ذ) بالذاتي الأخص لأنه وصف مميز.

وإن كان الوصف المميز ليس من ماهية (س) بل عارض عليها دون غيرها أي (خ) سنسمي طريقة التعريف بالرسم، ونسمي (ع) بالذاتي الأعم، ونسمي (خ) بالخاصية والخاصة.

doura_04_01

تنبيهات:

– إن كان المرادُ تعريفَه كليًا ندخله تحت كلي هو أشمل منه يكون جنسا له، ثم نخصصه بوصف قد يكون من ذاتياته أو عارض عليه، ويكون التعريف بالحد أو الرسم على ما ذكرنا سابقا.

– إن كان المراد تعريفه كليا ولا كلي فوقه تعذر تعريفه بالحد أو الرسم، وتعين بيان ماهيته بالمرادف أو شرح اللفظ، لهذا قال السبزواري في منظومته معرفا للوجود:

معرف الوجود شرح الاسم *** وليس بالحد ولا بالرسم

إن كان الكلي (ع) مجهولا لا يعرف به ننتقل إلى كلي الكلي إن كان معلوما وإلا فكلي كلي الكلي إن كان معلوما وإلا فكلي كلي كلي كالكلي إن كان معلوما وهكذا وهذا النوع من الحدود والرسوم يسمى بالحد والرسم الناقص.

[9] حدُّ حدِّ عند المناطقة جامع غير مانع لأن جلّ من عرّفه استغنى عن فاصلة ذاتياته، وهي فاصلة تمنع أن يلتبس الحدّ بالرسم.

[10] أما الاطراد في عرف المناطقة أن نجد المحدود كلما وجدنا الحد، والانعكاس في عرفهم أن نجد الحد كلما وجدنا المحدود.

Comments are closed.